[right]أمره صورة من صور إعادة النظر في العقود. بعد هذا التجديد لمفهوم إعادة النظر في العقود يمكننا أن نرجع إلى التعريف الذي خلص إليه الأستاذ أسامة في بحثه، وهو " إحلال إرادة خارجية محل الإرادة العقدية، وذلك بفرض التزامات قضائية -، في محل الالتزامات التي ارتضياها عند إبرام التعاقد".
من هذا التعريف نستطيع أن نضع الشرطين الأساسيين الذين تؤسس عليهما هذه النظرية: الأول يقوم على عملية "الفرض" على المتعاقدين لالتزامات لم يرتضياها أصلا عند التعاقد. والثاني أن يكون مصدر ذلك "الالتزام المفروض" الإرادة القضائية – أم التشريعية –. مما يعني إذن أننا أمام نتيجتين:
النتيجة الأولى: إن الالتزام المفروض لابد وأن يتجه في مواجهة الإرادة العقدية: فهو في حقيقته فرض على تلك الإرادة، والفرض لا يقوم إلا بإلزام من وقع عليه ذلك الموجب رفضا عن إرادته. وفي واقع الحال لابد وأن يكون مغايرا لتلك الإرادة. فإعادة النظر إذن والإرادة العقدية متناقضات لا مجال لجمعهما: فإما أن تعمل الإرادة العقدية بصورة متكاملة وإما أن تعمل الإٍرادة الخارجية فتزول أمامها نية المتعاقدين، وتختفي لتترك مكانها لنية القضاء أو المشرع. وعلى هذا الأساس لابد من التمييز بين أوضاع ثلاثة يمكن من خلالها التمييز بين إعادة النظر وتعديل العقد بإرادة القضاء أو المشرع، وبين إعادة النظر وتعديل العقد إعمالا لإرادة المتعاقدين . فالقضاء عند بحثه في التعاقد إما أن يلجأ أولا إلى عملية تعديل العقد تطبيقا لبند صريح وارد فيه. وإما أن يلجأ ثانيا إلى التعديل تفسيرا للنية الحقيقية للمتعاقدين عند عدم وجود مثل ذلك البند الصريح. وإما أن يتولى أخيرا فرض الالتزامات على المتعاقدين من خارج إرادتهم إعمالا لنص قانوني أو لاعتبارات الإنصاف والعدالة (كتعديل أجر الوكيل). وقد يتولى المشرع نفسه بإرادته التقديرية عملية ذلك الفرض والتعديل في الوضعين الأولين، لا نكون أمام إعادة النظر بمفهومها التقني الذي نحن بصدده، بل على العكس نكون أمام تعديل للعقد نتيجة تفسير الإرادة العقدية. فالمسألة في هذه الحالة إذن لا تتعدى منطقة تفسير العقد وإعمال الإرادة. أما في الوضعية الأخيرة فالتناقض الذي خلفته عملية إيجاد الالتزامات القضائية أم التشريعية بين كل من هاتين الإرادتين وبين الإرادة العقدية كفيل بذاته بتأكيد التعديل الخارجي للعقد بمعزل عن الإرادة التي أوجدته. ففرض التعديل على الإرادة بفرض التزام قضائي أم تشريعي في محل الالتزام التعاقدي يشكل العنصر الأول المكون لهذه النظرية موضوع البحث – إعادة النظر في العقود – .
والنتيجة الثانية، لهذين الشرطين هي أن موضوع مراجعة العقد يقوم أساسا على إعطاء القاضي أو المشرع سلطة خلاقة تمكنه من التصرف بمحتوى العقد بحرية تقديرية تعود له، وتستطيع أن تفرض ما تراه مناسبا على ما أراده المتعاقدون. فالمهم إذن أن يتمتع القاضي أو المشرع بتلك الحرية في فرض الالتزامات، وفي تقدير ما يفرضه دون الالتفات إلى المصدر الذي يعطيه تلك السلطة: فقد يكون المصدر هو القانون نفسه، فيأتي عمل القاضي تطبيقا مباشرا له، وقد يمنح نص القانون نفسه القاضي حق تعديل بعض العقود وفرض الالتزامات. وقد يكون المصدر قواعد الأخلاق والإنصاف والعدالة، أو التطورات الاقتصادية الحاصلة التي تبرر إخضاع العقد عن طريق تعديله بسلطة القضاء أو المشرع لكي يأتي منسجما مع الأوضاع المستجدة. ففي مختلف هذه الحالات وطالما أن التعديل الذي حصل قد تم بفعل السلطة التقديرية المطلقة للإرادة القضائية أم التشريعية، فإن العنصر الثاني لإعادة النظر يكون قد اكتمل وجوده ليحل ما أوجده من التزام في مكان الالتزامات التي سبق للإرادة العقدية إن أوجدتها.
بعد هذا التحديد لتعريف ومفهوم إعادة النظر في العقود بصورتيها القضائية والتشريعية ننتقل لنبين الأنظمة المشابهة لهذه النظرية.
المبحث الثاني: إعادة النظر في العقود والنظريات المشابهة
لقد تبين لنا من خلال العرض لتعريف مراجعة في العقود بأنها تقوم على أساسين: الأول: تعديل العقد بفرض التزامات على المتعاقدين والثاني أن يكون ذلك الفرض في إرادة القضاء أو المشرع بحسب الطبيعة القانونية لإعادة النظر، قضائية أم تشريعية. كما بينا أن النتيجة القانونية لعملية الفرض تلك، هي إحلال التزامات قضائية أم تشريعية، في محل الالتزامات التعاقدية، أي استبدال التزام بالتزام، فيزول الالتزام الأول، ليحل محله الالتزام الجديد. وهذه العملية القانونية التي تنشأ عن إعادة النظر كفيلة بإعطاء هذه النظرية طابعا خاصا ومستقلا عن نظريات أخرى مقاربة. فهي رغم أنها تدور في فلك نظرية التجديد في الالتزام، إلا أنها تجديد من نوع خاص. وهي وإن كانت تقع في منطقة تنفيذ الالتزام بعد نشوئه، إلا أنها تتميز عن نظريات أخرى تدخل في نفس النطاق، كنظرية زوال العقد وتفسيره، وأخيرا عن التعويض الناشئ عن المسؤولية العقدية وهذا ما سنوضحه فيما يلي:
المطلب الأول: إعادة النظر في العقد ونظرية زوالها
لقد استعرضنا في مقدمة هذا الفصل الحالات التي عينها المشرع لزوال العقد، ورأينا أنها تنقسم إلى البطلان والإلغاء والفسخ والانفساخ بحكم القانون. وأوضحنا الأسس التي تقوم عليها كلا من هذه الصور: فالبطلان هو جزاء رتبة المشرع على مخالفة قاعدة من قواعد تكوين العقد، والفسخ هو وليد الإرادة التعاقدية التي اختارت وضع حد للعقد قبل انتهائه، وقد تختار ذلك بالنسبة للمستقبل أو بمفعول رجعي، وقد يكون أيضا وليد إٍرادة المشرع بمنحه أحد المتعاقدين الحق بإنهاء العقد بإرادته المنفردة. والإلغاء يتم أساسا بمفعول رجعي. وهو يقف مع المسؤولية العقدية في مرتبة واحدة هي مرتبة مخالفة القوة الملزمة للعقد : فامتناع أحد المتعاقدين عن تنفيذ التزاماته يعطي المتعاقد الآخر الحق إما بطلب إلغاء العقد أو المطالبة بتنفيذه عن طريق التعويض. والانفساخ يتكون بانحلال العقد بسلطة القانون. أما إعادة النظر في العقود فإنها تقوم كما بينا على تعديل العقد بإرادة القضاء ، وهي بذلك تختلف عن نظرية الزوال اختلافا جذريا من الناحية العملية فمسألة تعديل العقد، وإن كانت تطرح عند تنفيذه كمسألة إزالته إلا أنها ليست جزاء لمخالفة قاعدة قانونية، ولا تتصل بمبدأ الإرادة وسلطانها، وإنما هي تخرج عن الإٍرادة العقدية وتخضع المحتوى العقدي لمحتوى جديد تفرضه الإرادة القضائية أو التشريعية.
فنظرية إعادة النظر في العقود تختلف عن نظرية زواله إذن، أولا لجهة الحالات التي تبرر إجراءها. فهي تظهر في الغالب عند فقدان العقد لتوازنه المألوف في العادة، ويكون ذلك إما بتحميل المدين أعباء غير عادية ولو كان ذلك بنتيجة التعاقد (كما في حالة البند الجزائي، أو إنقاص أجر الوكيل...) أو عند حصول تحولات اقتصادية تقضي بذلك التعديل، أو حصول أحداث جديدة أو تطورات أخلت بالظروف التي أبرم العقد في ظلها .
وهي تختلف ثانيا عن زوال العقد لجهة النتيجة التي تترتب على كل منهما، فزوال العقد معناه إنهاؤه ووضع حد له قبل نهايته الطبيعية. أما إعادة النظر في العقد فغايتها الأساسية إبقاء العقد وضمان استمراره بصورة معقولة. فاختلال التوازن في اقتصاديات العقد بصورة غير مألوفة كما في حالة الظروف الطارئة من شأنه إرهاق المدين وتهديده بالتوقف عن التنفيذ، مما ينهي العقد بسبب ما ينشأ عنه من صعوبات تحول بينه وبين الاستمرار في عقده . فيتبرر تعديله العقد وتأمين استمراره وبقاءه. وقد تكون الغاية المنشودة من تعديل العقد وإعادة النظر فيه – مجرد تطبيق العدالة وقواعد الإنصاف بفرض مراجعة العقد لمصلحة الطرف الضعيف منعا للاستغلال والظلم. فقد نصت المادة 149 من القانون المدني المصري على أنه " إذا تم العقد بطريق الإذعان، وكان قد تضمن شروطا مشينة جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقا لما تقضي به العدالة، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك" كما أن تعديل عقود الإيجار بتخفيض السومة الكرائية المعدة للسكنى أو إنقاصها أو الإعفاء منها بالنسبة للأراضي الفلاحية يكون رائدة دائما منع استغلال أحد المتعاقدين للآخر أو حماية المستأجر الذي يكون في الواقع الغالب طرفا ضعيفا يستحق الحماية .
وخلاصة القول هو أن الفرق بين نظرية إعادة النظر في العقد وبين نظرية زواله تدور حول نقطتين: أساس ومجال كل من النظرتين، والغاية المتوخاة من طرح كل منهما.
المطلب الثاني: إعادة النظر في العقود ونظرية تفسيرها
يقول الأستاذ كاربونييه " إن تفسير العقد هو تأكيد لمبدإ سلطان الإرادة. أما إعادة النظر فهي إخلال بالعقود ومخالفة لهما" . فالقاضي عند تفسيره للعقد، عليه أن يحث عن إرادة المتعاقدين، وعن إرادتهم الحقيقية، فلا يحق له كما يقول الأستاذ السنهوري أن يحل إرادته محل تلك الإرادة إذن، ومن مقارنة كلا من تفسير العقود وإعادة النظر فيها، نتبين في أن الاختلاف الأساسي بين كل من النظرتين يكمن في مدى احترام الإرادة العقدية عند عرض العقد على القضاء، فنظرية التفسير تقوم على إعمال تلك الإرادة، ونظرية إعادة النظر تتجه في مقابل تلك الإرادة.
وفي الواقع فإن عنصر " فرض الالتزامات" على الإرادة العقدية من خارج العقد، والذي تقوم عليه نظرية إعادة النظر في العقود يؤمن المعيار الرئيسي والمميز بين التفسير وإعادة النظر. فعند تفسير العقد لابد من أن يصار إلى الحق عن نية الأطراف الحقيقية، فالمهم بحسب هذه النظرة، ليست العبارة المستعملة من المتعاقدين، بل ما قصده المتعاقدون من وراء استعمالها. في حين أنه عند إعادة النظر، لا يلتفت القاضي إلى العبارة المستعملة، أو إلى ما يمكن أن تخفي وراءها من مقاصد. فما يهمه ليست الإرادة العقدية، حقيقية كانت أم ظاهرة، بقدر ما يهمه البحث عن الحل المناسب الذي يراه ملائما بمعزل عن تلك الإرادة أو تلك المقاصد" . فإعادة النظر في العقود هي بحسب تعريفها لا تتلاءم أساسا مع النية العقدية أو الإرادة العقدية، وذلك إما تطبيقا لنص من القانون أو بسبب اعتبارات أخرى تتعلق بمصلحة العدالة أو المصلحة العامة اقتصادية كانت أم أدبية. فالاختلاف إذن بين كل من النظرتين يتمثل بالتقنية المتبعة في كل منهما. فالتفسير يبحث من خلال مقاييس وضعها المشرع عن الإرادة العقدية الحقيقية، وإعادة النظر في العقود تبحث عن حل ملائم يرضي الاعتبارات التي أوجدته ولو جاء معارضا لتلك الإرادة. إلا أن تطرف المشرع في التأكيد على الإرادة في التفسير قد أوصله دونما قصد إلى إعطاء القاضي عمليا سلطة تخرج به عن المبدإ الذي أراد تأكيده، وتقرب الحلول التي وضعها من الحلول التي تفرضها نظرية إعادة النظر.
من كل ذلك نستنتج أمرين أساسيين:
أولهما: الغاية من تفسير أي عمل قانوني على ضوء التشريع المغربي المستمد من المذهب الفرنسي القائم على الإرادة الباطنة وهو الكشف عن تلك الإرادة وإظهارها بعد إبعاد الغموض والتناقض الذي قد يلحق بها، أو الذي قد يصيب العبارة والإرادة معا.
وثانيهما: البحث عن الإرادة الحقيقية للمتعاقدين والتي تشكل المعيار المميز بين التفسير وبين إعادة النظر في العقود، ففي حين فإن فرض التفسير هو الأخذ بالإرادة العقدية تطبيقا لمبدإ سلطان الإرادة الذي يسود نظرية العقد والغاية من إعادة النظر هي فرض التزامات غير عقدية على المتعاقدين، لتحل محل الالتزامات التي سبق لهم أن حدودها في تعاقدهم، فعند تفسير العقد لا يحق للقضاء الخروج عن تلك الإرادة عندما تكون البنود العقدية واضحة ومعلنة. وعند إعادة النظر يصبح على القضاء أن يعدل العقد بإخضاعه لإرادته ومشيئته، دون الالتفات إلى ما قد تنطوي عليه تلك الإرادة.
وخلاصة القول "إن المغالاة في البحث عن نية الطرفين سمحت للقضاء بالتدخل في العلاقة التعاقدية، وتعديل الالتزامات بفرض التزامات جديدة محل الالتزامات الاتفاقية. فمهما كانت المبررات أو الأسباب التي اعتمدها القضاء في حيثياته، فإنها لا تعدو أن تكون مبررات اختلقها القضاء تحقيقا لغايات توخاها تخالف في واقعها القواعد العامة، ولا تستطيع إخفاء التقارب الذي حصل عمليا بين التطرف حتى استعمال قواعد التفسير وبين نظرية إعادة النظر في العقود.
المطلب الثالث: إعادة النظر في العقود والتعويض في المسؤولية العقدية
إن الاختلاف واضح بين كل من نظرتي إعادة النظر في العقود وبين المسؤولية العقدية وذلك من ناحيتين: الأولى تتعلق بالغرض الذي تهدف إليه كل من النظريتين، والثانية تتعلق في مجال إعمال كل منهما، ومع ذلك يرى البعض التقريب بينهما على الشكل الآتي:
إن كلا من النظرتين – إعادة النظر في العقود والمسؤولية العقدية – تتولى مهمة متميزة عن مهمة أخرى، فالمسؤولية العقدية فرضها "معاقبة" الإخلال بالقوة الملزمة للعقود، فهي جزاء لعدم احترام المتعاقد لتعهداته التي وعد بها عند التعاقد، سواء بعدم تنفيذها، أو بتنفيذها بصورة لا تتفق مع المبادئ التي تسود طريقه لتنفيذ الالتزامات عامة. كأن يتأخر في تنفيذها، أو يخالف مبادئ حسن النية في المعاملات ، في حين أن الغرض من إعادة النظر في العقود هو المحافظة على ذلك التنفيذ بتجنب نتائج الاختلال في التوازن العقدي والتفاوت الذي قد يحصل عادة في الالتزامات، وذلك بتحميل الدائن جزءا من العبء الذي لا يجوز تحميله للمدين وحده بصورة كاملة.
ثم إن لكل من النظرتين إطارا فنيا مختلفا ومتميزا عن الآخر، فالمسؤولية العقدية لا توجد إلا في حالة الإخلال بالالتزامات التي يفرضها العقد أو الاتفاق. فهي تتطلب إذن وجود التزامات تعاقدية وعدم تنفيذ المتعاقد – المدين بها – لتلك الالتزامات التي يفرضها العقد أو الاتفاق. فهي تتطلب إذن وجود التزامات تعاقدية، وعدم تنفيذ المتعاقد- المدين بها- لتلك الالتزامات . أما إعادة النظر في العقود فإنها لا تطرح فيها مسألة عدم التنفيذ أساسا، بل كيفية الوصول إلى متابعة ذلك التنفيذ. فالمدين في المسؤولية العقدية يتشبث بعدم التنفيذ، في حين أنه في حالة إعادة النظر يتمسك بالتنفيذ، إلا أنه يطلب بالمقابل الوسيلة التي تمكنه من تحقيق ذلك. فالتعويض الذي يحصل عليه الدائن كنتيجة لمسؤولية المدين العقدية، يتخذ – من الناحية العملية – معنى التعويض عن خطإ، في حين أنه يتخذ معنى المساعدة والمعاونة عند تعديل العقد وإعادة النظر بالتزاماته .
ورغم ذلك فقد حاول بعض الفقهاء في فرنسا، المقاربة بين كل من المسؤولية التعاقدية والتجديد في الالتزام الذي يلتقي بدوره عند نقطة الاستبدال في الالتزامات – القديمة بالجديدة – مع إعادة النظر في العقود كما بينا.
يقول الأستاذ سامي بديع منصور: إن التعويض الناتج عن المسؤولية العقدية ليس في واقع أمره سوى "استبدال الالتزام الرئيسي في التعاقد- وهو التنفيذ – بالتزام آخر جديد، هو دفع العطل والضرر" ومصدر هذا التجديد في الالتزامات التعاقدية الذي تولد عن الخطإ في تنفيذها، هو نص المادة 382 م.فرنسي. المتعلق بالمسؤولية التقصيرية. فالالتزام الجديد يتولد بنظر بلاينول عن الخطإ، ويحل محل الالتزام القديم الذي يجد مصدره في التعاقد. فالمسألة بنظره إذن مسألة تجديد ضروري للالتزام. فالالتزام بالتنفيذ قد زال أمام الالتزام الجديد بالتعويض .
ويبدو أن هذه النظرة التي قد تبدو لأول وهلة نظرة سليمة، قد لاقت الـتأييد لدى بعض الفقهاء المجددين. فالأستاذ ديغي، يرى بأن " الوضعية القانونية التي تنشأ عن الحكم – في المسؤولية العقدية – هي وضعية جديدة، فهي ليس لها دائما نفس الموضوع القديم الذي حلت محله. فقد كان الالتزام السابق هو التزام بأداء عمل، فحل محله التزام جديد بالعطل والضرر"2.
إذن نستنتج مما سبق بأنه عند عدم تنفيذ المتعاقد – المدين – لما يرتبه عليه العقد من التزامات فعن رابطة قانونية جديدة تتولد، لتحل محل الالتزامات التي كان على العقد ترتيبها. فالالتزام بالتنفيذ قد ترك مكانه لالتزام آخر هو التعويض. ولكلا الالتزامين منابع مختلفة على الأقل من الناحية النظرية "فإذا كان الأول مصدره الإرادة العقدية فإن الالتزام الثاني يوجد بمعزل عن تلك الإرادة" فالمشرع قد فرض التعويض في حالة عدم تنفيذ أحد المتعاقدين لالتزاماته، ليحل محل التنفيذ العيني الذي افترضته الإرادة.ونخلص إلى القول على ضوء هذا التحليل بأن المسؤولية العقدية ليست بحسب طبيعتها سوى نوع من التجديد للالتزام طالما أن التزاما جديدا وهو التعويض وقد حل محل الالتزام القديم النابع من العقد وهو التنفيذ. ومن هذا الالتقاء بين هذا التعويض في المسؤولية، وبين المساعدة – وهو الالتزام المعدل – في نظرية إعادة النظر في العقود فكلاهما يعتمد على استبدال التزام قديم بالتزام جديد، وكل منهما يترتب عليه التجديد في هذه الالتزامات .
إن التحليل الدقيق لعناصر الالتزام وبصورة عامة يبين الخطأ الذي يكمن في هذه النظرية. فالالتزام كما يقول الأستاذ أسامة عبد الرحمان يحتوي مبدئيا على عنصرين: عنصر المديونية وعنصر المسؤولية. فالدين هو موضوع الالتزام، والمسؤولية تحل محله عند عدم تنفيذه، فالمسؤولية العقدية ليست إذن كما رأى أصحاب تلك النظرية مصدرا من مصادر الالتزام بالتعويض، بل هي عنصر من عناصره، فرضها ضمان تنفيذ العنصر الأول وهو عنصر المديونية. فعدم تنفيذ المدين لدينه الناشئ عن الالتزام ليس معناه إزالة الالتزام ككل، وإحلال التزام آخر مكانه، بل معناه إزالة عنصر من العنصرين المكونين للالتزام، وهو عنصر المديونية ليتحرك بعد ذلك العنصر الآخر، وهو عنصر المسؤولية. فالمسألة لا تبدو على ضوء هذا التحليل مسألة تجديد للالتزام بل مسألة تطبيق وإعمال لعناصر الالتزام.
فالتجديد لا يكون بحسب تعريفه إلا عند استبدال التزام بالتزام، بمعنى أنه لابد من الخروج من إطار الالتزام الأول للدخول في إطار التزام آخر حل محله. وهذه ناحية غير متوفرة عند البحث في المسؤولية العقدية. فالالتزام بالتنفيذ لم يستبدل بالتزام آخر بالتعويض؛ بل إن الالتزام الأصلي الناشئ عن العقد قد بقي هو ذاته، وكل ما في الأمر هو أن الإخلال بعنصر ذلك الالتزام الأول وهو المديونية قد تسبب بإعمال عنصره الثاني وهو المسؤولية. فنحن إذن لم نخرج كما ذهب إليه أنصار النظرية القائلة بالتجديد من دائرة الالتزام العقدي إلى دائرة التزام آخر مصدره الخطأ، بل على العكس فقد بقينا ضمن دائرة الالتزام الرئيسي الذي لم يتبدل.
الفصل الثاني
الشروط العامة للنظرية ومجال تطبيقها
يتطلب تطبيق النظرية توافر عدة شروط، ورغم ذلك كما يقول أستاذنا الدكتور أسامة عبد الرحمان " لا يوجد اتفاق تام بشأن هذه الشروط في القانون المقارن، فبينما تلجأ بعض النظم القانونية إلى التوسع في نطاق هذه الشروط يضيق بعضها الآخر فيه بحيث لا يتطلب سوى عدد قليل منها.
ويرجع الفضل أساسا في استنباط شروط هذه النظرية إلى الفقه، ومع ذلك فلم تتوحد خطة الفقه المقارن فيما يتعلق بتفصيل هذه الشروط أو تقسيماتها المختلفة، فمثلا نجد بعض الفقه الفرنسي يتوسع في هذا التفصيل فيشترط أولا أن يكون العقد:
1- دوره التنفيذ أو مؤجل التنفيذ – 2 عددا من العادة أو احتماليا في بعض الأحيان أو عقد معاوضة.
كما يشترط ثانيا أن يطرأ حادث يكون 1- استثنائيا 2- لاحقا لانعقاد العقد، ومعاصرا لتنفيذه 3- غير متوقع الحدوث 4- خارجا عن إرادة المتعاقدين 5- من شأنه أن يجعل تنفيذ التزام أحد المتعاقدين مرهقا.
أما الفقه العربي بوجه عام فيتطلب لتطبيق هذه النظرية شروطا أربعة وهي: 1- أن يكون العقدالدي تثار النظرية في شأنه متراخيا.
2- أن يطرأ بعد صدور العقد حادث استثنائي عام.
3- أن يكون هذا الحادث الاستثنائي العام ليس في الوسع توقعه.
4- أن يجعل هذا الحادث تنفيذ الالتزام العقدي مرهقا له مستحيلا. إلا أننا سنقوم بعملية تركيبة لهذه الشروط، فنربط العناصر الثلاثة الأولى بالحادث الطارئ من حيث عدم توقعه، و أما العنصر الرابع الذي هو الإرهاق فسنناقشه باعتباره طرفا غير متوقع.
وبعد أن نتثبت من مضمون الشروط الواجبة لتطبيق النظرية ننتقل لدراسة مجال تطبيقها، فنتحدث عن الالتزامات التعاقدية وعن الالتزامات السابقة على التعاقد
لذلك نقسم هذا الفصل إلى فرعين:
الفرع الأول: الشروط العامة للنظرية
الفرع الثاني: مجال تطبيقها
الفرع الأول: الشروط المتطلبة لمراجعة العقد
توطئـــــــــة :
لتحديد مضامين الشروط، ولبيان مفهومها يعرض الفقهاء تعريفات مختلفة، ولكنها تدور جميعها في فلك شروط واحدة. فالأستاذ السنهوري يرى أن الظروف الطارئة تفترض الوضع الآتي " عقد يتراخى وقت تنفيذه إلى أجل أو آجال، كعقد التوريد، ويحل أجل التنفيذ، فإذا بالظروف الاقتصادية التي كان توازن العقد يقوم عليها وقت تكوينه قد تغيرت تغيرا فجائيا لحادث لم يكن في الحسبان، فيختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالا خطيرا... نفرض فيما قدمناه أن تنفيذ الالتزام من جهة لم يصبح مستحيلا، ومن جهة أخرى صار مرهقا يهدد بخسارة تخرج عن الحد المألوف، ثم نفرض أن هذا كله لم يكن قائما وقت نشوء العقد، بل وجد عند تنفيذه، فماذا يكون الحكم؟ تقول نظرية الحوادث الطارئة: لا ينقض التزام المدين لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى التزامه كما هو لأنه مرهق، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول حتى يطبق المدين تنفيذه، يطبقه بمشقة ولكن في غير إرهاق". أما الأستاذ عبد المنعم الصدة فيعرض للظروف الطارئة على الشكل التالي: " هناك عقود يتراخى فيها التنفيذ إلى أجل أو إلى آجال، ويحصل عند حلول أجل التنفيذ أن تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت بسبب حادث لم يكن متوقعا، فيصبح تنفيذ الالتزام شاقا على المدين مرهقا له إلى الحد الذي يجعله مهددا بخسارة فادحة ، الأمر الذي يجيز للقاضي أن يتدخل ليوزع تبعة هذا الحادث على عاتق الطرفين وبذلك يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول".
أما الفقيهان كولان وكابيتان فيعرفان الظروف الطارئة على أنها تلك الأحداث التي تطرأ أثناء تنفيذ العقد، وهو عادة متتابع التنفيذ، بحيث يصبح بالنسبة للمدين أكثر إرهاقا مما توقعه عند التعاقد، بفعل تلك الظروف". والأستاذ جوسران يعرفها بدوره على أنها تلك الظروف التي تعترف للقاضي بحق الأخذ بعين الاعتبار، أثناء العمل بالاتفاقات التعاقدية في الظرف أو الحدث غير المتوقع أو غير المنتظر الذي قد يحصل أثناء الاتفاق، ويكون من نتيجة هذه الظروف الخارجية وغير العقدية أن تخل بالتوازن العقدي، ويكون بالتالي من حق المدين أن يفرض على المتعاقد الآخرإما فسخ العقد وإما إعادة النظر به بإعادته إلى سابق توازنه .
فمن مختلف هذه التعريفات (وسواها) نستخلص أن الظرف الطارئ الذي من شأنه أن يؤدي إلى إعادة النظر في التعاقد هو الظرف الذي تتوافر فيه الشروط التالية:
-أن يكون ظرفا غير متوقع عند التعاقد
-أن يكون ظرفا استثنائيا غير مألوف
وهذا الظرف لا يصيب بحسب مفهومه العملي سوى الأعمال الإرادية وحدها وأخصها العقود.
المبحث الأول: الظرف غير المتوقع
ما برح الفقه يشدد على أهمية هذا الشرط معتبرا أنه أساسي لإعادة النظر في العقود للظروف الطارئة. بل أن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، فيعتبر أن شرط عدم التوقع يغني عن شروط استثنائية الظرف نفسه " إلا أنه إذا صح أن الحادث الاستثنائي قد يكون متوقعا، فإنه على العكس من ذلك، فإذا كان الحادث غير متوقع فلا بد من أن يكون استثنائيا". والأصل أن يكون كل شيء متوقعا: فالتوقع هو القانون، وعدم التوقع هو الاستثناء، وعلى القاضي أن يكون حذرا عند استنتاجه.
ولاكتمال شرط عدم التوقع يحاول الاجتهاد أن يضع معيارا يفيد بوجوده، ويحدد ما يترتب من التزامات تقع على المتعاقد حال وجوده. كما أنه يحاول أيضا أن يحدد الحالات التي يقوم عليها عدم التوقع: هل هي حالة الحادث نفسه أم حالة نتائجه كذلك. وهل توقع المتعاقد الحادث أو نتيجته في حالات معينة ، والعمل على تجنبها بإيراد بنود وقائية في العقد تؤدي إلى الأخذ بالتوقعات العقدية، أم رفض تكريسها لما قد يشكله هذا النوع الخاص من التوقع من مخاطر، كما في حالة توقع التغيرات النقدية أو الاقتصادية ومحاولة تفاديها بوضع بنود تستلزم ابتعاد تطبيقها اتقاء للنتائج المحتملة لتلك التغيرات.
المطلب الأول: عدم التوقع: معياره ونتائجه
إن الوقوف عند معيار مميز بين الظروف على أساس توقعها أو عدم توقعها هو من الأمور المهمة التي تمكن من رسم خط واضح فيما بينها. لقد قام الفقه ومن ورائه الاجتهاد في البحث أولا عن ذلك المعيار وثانيا عن قياس لذلك المعيار تعرف من خلاله حالات التوقع أو عدمه. كما أن الفقه والاجتهاد لم يتوقفا عند حد إيجاد ذلك المعيار، بل بحثا بعد ذلك فيما يترتب على عدم التوقع من نتائج تلقي على عاتق المتعاقد بعض الالتزامات لاكتمال ذلك الشرط وقيامه.
الفقرة الأولى: معيـار عـدم التوقـع
إن إيجاد المعيار المميز الذي أشرنا إليه بين التوقع وعدمه، هو من الأمور المرنة، وخاصة في وقت وصلت فيه العلوم والتقنيات الحديثة مرحلة جعلت من "المستحيل" عبارة ذات مفهوم نسبي أمام الموجبات المتدفقة من الغزو البشري للمجالات الجديدة والبروز الواضح للاكتشافات التي كانت لوقت مضى ضربا من الاستحالة والتخيل. إن كل شيء يبدو ماثلا أمام الذهن البشري قد فتحت له "التجارب العلمية مجالات جديدة، وعلمته الأزمات والحروب أشكال المعاناة والمصاعب، وألقت وسائل الاتصال المتطورة أمامه بالأحداث من كل نوع، وما يترتب على تلك الأحداث من نتائج على صعيد التعامل والارتباط. لقد بات التصور البشري نتيجة لذلك مستغرقا الحاضر والمستقبل، تخطر أمامه مختلف الظروف التي حدثت في السابق أو من المحتمل حدوثها في المستقبل، حتى لأصبحنا نتساءل وبحق هل هناك فعلا ما هو غير متوقع؟ وهل هناك ضرورة للبحث عن مقياس مميز بين التوقع وعدمه؟".
أ- مفهوم عدم التوقع
إن النزعة التقليدية ما برحت تسلم بالتمييز بين التوقع وعدم التوقع. فهي لم تزل تحاول إيجاد المعيار الذي تبحث على ضوئه شرط عدم التوقع المطلوب كركن مكون بنظرها للنظريات المفاجئة كنظرية القوة القاهرة وإعادة النظر في العقود للظروف الطارئة، فتقيم لذلك تمييزا من نوع آخر في درجة التصور الذهني لدى الرجل المتوسط، فالأستاذ أسامة عبد الرحمان في أطروحته يقيم تفريقا في درجة التوقع بين ما هو ممكن وما هو محتمل. فإذا كان الحادث لم يتجاوز مرتبة الإمكان إلى مرتبة الاحتمال فهو يشكل الحادث غير المتوقع المشروط لتطبيق هذه النظريات. فالإنسان يتوقع في الغالب أمورا متعددة وأحداثا مختلفة، وتلك الأمور أو هذه الأحداث تتخذ في ذهنه ثلاث تصورات: فهي قد تقف في مرحلة أولى عند مرتبة التنبؤ، أو قد تصل في مرحلة ثانية مرتبة الإمكان، أو قد تتخطى في مرحلة ثالثة تلك المراتب لتصل مرتبة الاحتمال. في الحالتين الأوليين فان الظرف الذي جرى تصوره بالتنبؤ به أو بإمكان حصوله يبقى ظرفا غير متوقع. فالتنبؤ شيء والتوقع شيء آخر. وفي تلك الحالتين لم يتخط التصور مرتبة التنبؤ، فيبقى الظرف المتصور غير متوقع على ضوء النظرة القانونية، مع أنه قد جرى توقعه بالتنبه إلى إمكان حدوثه من الناحية العادية على ضوء المراقبة العملية. ولكن في الحالة الثالثة – مرتبة الاحتمال – فإن الوضع يبدو مختلفا: فالمرء لا يكفي بتنبؤ الحادث، ولا يتوقع مجرد "الإمكانية" بحصوله بل يتجاوز ذلك إلى حالة "احتمال" ذلك الحصول. فمرتبة الاحتمال إذن هي مرتبة تقف وسطا بين مرتبة الإمكانية بحصول الفعل وبين مرتبة حصوله فعلا، وهذه هي الحالة التي من شأنها أن تنفي عن الظرف صفته المفاجئة. فاحتمال حصوله، معناه توقع حصوله من الوجهة القانونية، فكان ينبغي اتخاذ التدابير المناسبة لمجابهة ذلك الاحتمال" . فوقوع الحادث بعد ذلك لا يبقيه في بوتقة من الأحداث غير المتوقعة. فالمعيار المميز بين ما هو متوقع وما هو غير متوقع، كامن إذن، على ضوء هذه النظرة في عنصر الاحتمال أو عدمه لحصول الظرف المفاجئ.
وتطبيقا لذلك لا يشكل الحادث المفاجئ: هطول المطر، أو الحروب في بلد تعصف به النزاعات، في حين أن شركة الملاحة تتنبأ دائما بحصول العواصف، ولكن مع ذلك قد لا تعتبر هذه الأحداث أحداثا طارئة إذا لم تحتمل وقوعها. ففي الحالات الأولى هناك احتمال بسقوط المطر أو وقوع الأزمات، طالما أن الظروف تفترض ذلك، بينما في الحالة الثانية شركة الملاحة تتنبأ فقط بمجرد إمكانية هبوب عاصفة ولكنها لا تحتمل حصوله. كما أن تأرجح الباخرة بمفعول المد والجزر هو من الأمور المألوفة والملحوظة في أكبر المرافئ، فلا تعتبر الأَضرار الناتجة عنها غير متوقعة. وكذلك فإن تأخير السلطة في إعطاء الترخيص أو رفضه أو توقيف المؤجر عن متابعة البناء أو التحول الحاصل في الاجتهاد هي من الأمور المحتمل حصولها، تنتفي عنها حال وقوعها صفة المفاجأة وعدم الترقب .
فاعتبار الفعل متوقعا لا يكفي إذن كما بين، أن يكون وقوعه ممكنا بل أن يكون محتملا بصورة جدية ومعقولة على أن ينظر في ذلك وقت التعاقد لا وقت حصوله ، ويؤيد الأستاذ سامي بديع منصور هذا الاتجاه، إذ أن الاكتفاء بمجرد إمكانية وقوع الحادث لاعتبار الظرف متوقعا تعترضه صعوباتان: بالإمكان يبقى الإبهام والغموض قائما، كما أن الاكتفاء به لتحديد الفعل المتوقع من شأنه أن يجعل من كل الأفعال ظروفا متوقعة.
وخلاصة القول أنه لا يقتضي أن نعتبر أي فعل أنه متوقع إلا إذا كان هناك احتمال كافيا لدى الشخص العادي والمتبصر في حصوله.
ب- معيار عدم التوقع
بعد أن حدد الفقه معيار الاحتمال كعامل يميز بين التوقع وعدمه كان عليه كما قلنا أن يبحث عن مقياس تطبيقي لإعمال ذلك المعيار: هل أن ذلك المقياس هو شخص المتعاقد بالذات أم هو شخص آخر لابد من تحديده.
إن الأصل بنظر الفقهاء هو أن على القضاء أن يبحث في كل حالة تعرض أمامه لإيجاد حل خاص لها. فالمسألة كما يقول الأستاذ محمد عبد الجواد هي في أساسها مسألة خاصة بجوهرها، تتعلق بصفات المدين وترتبط ارتباطا وثيقا وضيقا بشخصه الذي يتغير بتعدد المدينين.
فالقضاء هو أمام متعاقدين تناقشا قبل التعاقد ، ووقعا العقد بعد ذلك، فعليه إذن أن يبحث عما اتفقا عليه وعلى ما توقعاه فعلا وقت التعاقد، ليس عند إرادة لغيرهما بل في إرادتهما وحدها فقط، إذ أن من المفترض أن ما توقعه المتعاقد وما احتمل حدوثه قد أخذه على عاتقه عند التعاقد. فالمعيار الأولي هو إذن المعيار الشخصي" .
إن اعتماد هذا المعيار المنطقي لا يخلو من مخاطر نظرية وعملية على السواء، فاللجوء أولا إلى تقصي ما كان يدور في نفس المتعاقد وقت التعاقد هو عمل صعب إن لم يكن مستحيلا.
فالقول بأن الحادث غير المتوقع هو الحادث الذي لم يكن في وسع المدين المتعاقد أن يتوقع حدوثه عند التعاقد هو من الأمور الباطنية التي تختلف باختلاف الأفراد والمتعاقدين، والتي تتطلب جهدا واختصاصا نفسيا لا يفترض في القضاء الخبرة في حقله.
والصعوبة والمخاطر تبرز بصورة أوضح على الصعيد النظري، فالتوقع أو عدمه يشكل قاعدة سلوكية ينبغي الرجوع عند تحديدها إلى السلوك العادي والمألوف للمتعاقد، فنتساءل، هل يتبين من خط سير حياته العادية أنه كان دائما متبصرا يقظا متوقعا بسبب يقظته للأمور والأحداث، أم أنه في الغالب كان مهملا متبلدا لا يتوقع أكثر الأمور توقعا؟ في الحالة الأولى يقتضي اعتبار الحادث متوقعا ولا يقبل ادعاؤه بالظرف الطارئ، إذ لابد من تحميله نتيجة تبصره. وفي الحالة الثانية نعتبر أن الحادث ليس متوقعا طالما أنه لا يمكنه نتيجة لعدم تبصره عادة أن يتوقعه. إن النتيجة التي توصلنا إليها ليست في حقيقتها سوى ضربا من العقوبة يصيب المتعاقد النبيه بسبب نباهته، وفي المقابل يكافأ المتعاقد المهمل، برفض اعتبار ما كان ينبغي أن يتوقعه ظرفا متوقعا بسبب إهماله في المادة .
للابتعاد عن هذه النتيجة غير المنطقية التي نتوصل إليها باعتماد ذلك المعيار الشخصي للمتعاقد التجأ الفقه والقضاء إلى معيار آخر، موضوعي ينظر من خلاله ليس إلى أي من المتعاقدين بالذات، بل إلى شخص أجنبي عن التعاقد يؤخذ كمثال أو نموذج يقاس عليه معيار احتمال وقوع الحادث أو عدم احتماله: هو معيار الشخص المعتاد.
والمقصود بالشخص المعتاد هو ذلك الشخص المتوسط الذكاء والتبصر، فلا هو على حد تعبير الأستاذ السنهوري، خارق الذكاء فيرتفع إلى الذروة ، ولا هو محدود الفطنة خامل المهمة ينزل إلى الحضيض" بل هو رجل ذو عناية واهتمام. والوقت الذي ينبغي اعتماده لتقدير احتمال التوقع أو عدمه هو وقت إبرام العقد. يعتد بما قد يطرأ بعد ذلك من ظروف تجعل حصول الحادث متوقعا. على أن هناك اتجاها أقل تشددا يشترط بالإضافة إلى مدى احتمال الرجل المتوسط الذكاء والبصيرة لحصول الحادث ضرورة وجود سبب آخر خاص يحمل على التفكير والاعتقاد بأن حادثا معينا سيقع. فكل فعل قابل للحصول لا يشكل بالحتم ظرفا طارئا، بل لابد من أن تنبئ الأوضاع بوجود سبب خاص يفيد بحصول الحادث .
إن هذا "السبب الخاص" والإضافي لاستنتاج التوقع أو عدمه قد لقي نجاحا في التطبيق القضائي الذي أخذ به في بعض مراحله. فبعض الأحداث بنظره تبقى غير متوقعة حتى ولو كانت ممكنة بحد ذاتها، حتى ولو كانت إمكانية حصولها وتحققها قد تبادرت إلى ذهن المتعاقدين. فخطر الاصطدام بالصخور البحرية هو خطر يهدد الملاحة بصورة عامة، فهذا الحدث المتوقع يبقى محتفظا بصفته كحادث مفاجئ إذا حصل في مكان لا يوجد فيه أي خطر خاص من هذا النوع يكون سببا لتوقع خاص لحصوله.
كما أن الحريق الذي نشب في إحدى عربات السكك الحديد هو أيضا متوقع، إذا كان هنالك من سبب خاص يحمل على ذلك، كوجود 39 راكبا في العربة، في حين أن سعتها 17 راكبا فقط، وكانت غالبية أولئك الركاب من الصيادين الذين يحملون معهم أمتعتهم التي تحتوي على المواد المحرقة .
وتأكيدا لهذا الاتجاه العملي في استخراج عنصر التوقع أو عدمه، اعتبرت محكمة استئناف بيروت غرفتها الثالثة في قرار حديث لها، أن الاصطدام الذي حدث بين زائر للفندق وبين الواجهة الزجاجية للمدخل يبقى تجاه ذلك الزائر حادثا غير مرتقب، ذلك لعدم وجود سبب خاص يحمله على توقع وجود مثل ذلك الحاجز الزجاجي لشفافيته، فتبقى إدارة الفندق مسؤولة عن ذلك الحادث.