إثبات النسب عند الوطء بشبهة بين قانون الأسرة الجزائري و الشريعة الإسلامية. لمؤلفه أبو عبد الله بلال القسنطيني الجزائري.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعه، أما بعد:
فهذا بحث صغير مستل من مذكرة تخرجي الموسومة بـ : ( إثبات النسب في ظل قانون الأسرة الجزائري) ، و هو بحث بينت فيه ما خالف فيه قانون الأسرة الجزائري و ما وافق فيه الشريعة الإسلامية ، و للتنبيه فإن تقنين الشريعة غير جائز شرعا و لمزيد من التوسع في هذا الموضوع راجع حكم تقنين الشريعة للشيخ الشتري و فقه النوازل لبكر أبو زيد رحمه الله الجزء الأول فقد بينوا جزاهم الله خيرا حكم التقنين و ردوا معظم الشبهات الواردة في ذلك ، هذا و إني أسأل الله أن ينفع بهذا البحث كل من يقرؤه و أن يغفر لصاحبه فيما زل فيه و أن يتجاوز عنه و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إثبات النسب عند الوطء بشبهة :
جاء في المادة (40) من قانون الأسرة الجزائري على أنه :'' يثبت النسب بالزواج الصحيح أو بالإقرار أو بالبينة أو بنكاح الشبهة أو بكل زواج تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد : 32 و 33 و 34 من هذا القانون'' ، و بهذا يكون قد أقر ثبوت النسب بنكاح الشبهة و بكل نكاح فاسد ، و هذا ما يعاب على هذه المادة ، إذ أن المعنى الظاهر فيها يدل على أن النكاح الشبهة شيء و النكاح الفاسد شيء آخر و هذا المعنى فاسد و غير صحيح ، لأن النكاح الفاسد ما هو إلا نوع من أنواع النكاح بشبهة ، و من هنا يظهر جليا خلط القانون الجزائري في هذه المسألة ، إذ كان عليه أن يتكلم عن الوطء بشبهة بدلا من النكاح بشبهة مادام أنه أقر ثبوت النسب بالنكاح الفاسد في النص ذاته ، و تنزلا معه فلا بد من إعادة صياغة هذه المادة على النحو الآتي : '' يثبت النسب بالزواج الصحيح أو بالإقرار أو بالبينة أو بالزواج الفاسد أو بالوطء بشبهة ...'' ، و هكذا يكون المعنى صحيحا و الغريب أنهم يطلقون على من يضع القانون لقب الفقيه !!لهذا فلفظ الفقيه يجب أن يحذف من قواميس الذين يضعون القانون لأن هذا اللفظ أغلى أن يطلق هكذا جزافا.
أولا :تعريف الوطء بشبهة :
الشُّبْهَةُ لُغَةً : مِنْ أَشْبَهَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ أَيْ : مَاثَلَهُ فِي صِفَاتِهِ.
و أما معناها الاصطلاحي فهي الأمر الذي يشبه الثابت و ما هو بثابت و قد سئل الإمام أحمد : ما الشُّبُهَات ؟ فأجاب : هي مَنْزِلة بَيْن الحلال والحرام إذا استبرأ لِدِينِه لَم يَقَع فيها .
وفي الحديث المتّفق عليه : إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ، وبينهما مُشْتَبِهَات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .. الحديث . رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية : وَبَيْنهمَا مُشَبَّهَات ، و قوله صلى الله عليه و سلم : (ادرؤوا الحدود بالشبهات)([1]).
قال ابن حجر في الفتح : أَيْ : ( شُبِّهَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّن بِهِ حُكْمهَا عَلَى التَّعْيِين)، وقال ابن منظور : و المشتبهات من الأمور المشكلات .
و الوطء بشبهة هو خطأ يقع فيه الشخص كأن يجامع أخت زوجته التوأم التي زفت إليه فلم يفرق بينهما ، و قد قيل هو وطء حرام لا حد فيه و الشبهة قد تكون شبهة فعل كما مر في المثال أو شبهة الملك أو العقد.
ثانيا : أقسام الوطء بشبهة :
01 - شبهة الفعل :
و فيها يعتقد الشخص حل الفعل و يظن في نفسه أن الحرام حلال فالواطئ هنا ظن حل الوطء و لذلك كانت الشبهة في الفعل و ليست في محل الوطء كأن يأتي زوجته التي طلقها ثلاثا في العدة و على ذلك فإن النسب لا يثبت سواء ظن الحل أو قال أنه علم بالحرمة لأن هذا الأمر متعلق بالفاعل نفسه ، إذ الفعل في ذاته لا شبهة في أنه زنا مطلقا و كونه كذلك سيتتبع عدم ثبوت النسب لأن الزنا لا يثبت به النسب البتة ، إلا أن يستلحقه ، لأن الواطئ لم يتقد ذلك نكاحا صحيحا([2]) ، و لبعض العلماء اعتراض في مسألة الرجل الذي زفت إليه غير امرأة كالذي زفوا له أخت زوجته التوأم فوطئها و مع أن هذه عندهم شبهة في الفعل فإن النسب يثبت للواطئ ، و قد سئل شيخ الإسلام عبد العزيز ابن باز رحمه الله مفتي المملكة سابقا عن الذي وطء أخت زوجته التوأم فأجاب : فإن كان وقع بها يظنها زوجته التي عقد عليها فلا شيء عليه، ولا إثم عليه، وإن حملت فالولد منسوب إليه؛ لأنه وطأ بشبهة وهو معذور([3]).
02 - شبهة المحل أو الملك :
وهي عكس شبهة الفعل لأن الواطئ في هذه الحالة يملك ، و تنشأ هذه الشبهة عن دليل مثبت للحل في المحل و هذا الدليل ينفي الحرمة مع وجود دليل آخر يحرم الفعل نفسه غير أن وجود الدليل الآخر يورث شبهة في حكم الشرع فيما يتعلق بهذا التحريم ، و مثاله كالذي وطئ أمة ولده فلا يجب عليه الحد و لقيام الشبهة في المحل و هو الأمة الموطوءة ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلا قَالَ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالا وَوَلَدًا وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي فَقَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ )([4] ) ، و مما يمكننا استفادته من هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
أنت و مالك لأبيك ) و لم يقل ( أنت و مالك ملك أبيك) لأن اللام في الحديث ليست للملك بل للإباحة، قال ابن القيم رحمه الله : (واللام في الحديث ليست للملك قطعا .. ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث وإلا تعطلت فائدته ودلالته )([5]).
و ليس المقصود أن هذا الفعل مباح و لكن نريد أن نوضح أنه يجوز أن يأخذ الأب مما يملك ولده ، و لهذا قد يتأول الأب أنه قد يستطيع وطء أمة ولده مادامت ملكا له و بهذا يقع في هذه الشبهة .
و عليه فهذا الفعل و هو وطء أمة الولد في حد ذاته ليس زنا لوجود الشبهة في المحل ة الحكم ، و يثبت النسب للولد الحاصل في الوطء بشبهة بناءً عليها إن ادعاه الواطئ.
03 - شبهة العقد :
كالعقد على امرأة و بعد الدخول تبين أنها من المحرمات ، و مثال هذا النوع من الشبهات أن يتزوج شخص أمه أو أخته و يدخل بها بناءً على ذلك أو خامسة على أربع في عصمته و فيها يسقط الحد عن الفاعل و إن قال علمت أنها عليّ حرام و أما عند أبي يوسف (أبو حنيفة) و محمد([6]) فإن الحد لازم و لا يثبت النسب إن كان يعلم بالحرمة لأن الفعل صار زنا.
و تلخيصا لما سبق فإن كل وطء اعتقد الواطئ حله يثبت به النسب ، و تلحق به آثاره من تحريم المصاهرة و إثبات العدة و درء الحد ، و غيرها ([7]) ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : '' فإن من وطئ فرجا يعتقده حلالا له , وليس هو في الحقيقة حلالا , مثل أن يشتري جارية اشتراها , أو اتهبها , أو ورثها , ثم تبين أنها غصب , أو حرة , أو يتزوجها تزوجا فاسدا لا يعلم فساده , إما بأن لا يعلم السبب المفسد , مثل أن تكون أخته من الرضاعة ولم يعلم , أو علم السبب ولم يعلم أنه مفسد لجهل كمن يتزوج المعتدة معتقدا أنه جائز , أو لتأويل , كمن يتزوج بلا ولي , أو وهو محرم , فإن حكم هذا الوطء حكم الحلال في درء الحد ولحوق النسب وحرية الولد ووجوب المهر وفي ثبوت المصاهرة والعدة بالاتفاق''([8]).
و لكن يشترط في لحوق الولد به إمكان كونه منه ، بأن يكون ممن يولد لمثله([9] )، و أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر من حين الدخول بها ([10]).
و قد نقل جمع من العلماء المحققين الإجماع على لحوق النسب في الوطء المحرم ، إذا اعتقد الواطئ صحته .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أثناء رده على من يدعي أن ابن الموطوءة بشبهة ولد زنا : '' فمن قال أن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا لا يتوارثان هو وأبوه الواطئ مخالف لإجماع المسلمين منسلخ من رتبة الدين فان كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين الحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين ... فإن أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، و اتبع غير سبيل المؤمنين ، فإنه يستتاب فإن تاب و إلا قتل'' ([11]).
و خلاصة القول أن كل وطء اعتقد الواطئ صحته بتأويل أو اجتهاد أو تقليد ، فإن النسب لاحق به ، و إن كان ذلك الوطء محرما.
أما القانون الجزائري فقد اعتبر النكاح بشبهة سبب من أسباب ثبوت النسب من غير أن يفرق بين شبهة و شبهة كما بيناه سابقا بقوله كما في نص المادة (40) : '' يثبت النسب بالزواج الصحيح ... و بنكاح الشبهة ... '' و بالرجوع إلى نص المواد : (40) و (42) من قانون الأسرة التي أوجبت مراعاة المدة القانونية في أقل و أقصى مدة الحمل حتى يكون النسب ثابتا في نكاح الشبهة ، و عليه إن خالط الرجل امرأة بشبهة كان الفراش ملحقا بالفراش الصحيح و الذي يعتبر فراش قوي يثبت به النسب من غير توقف على دعوة الرجل.
هذا ما وصلت إليه فإن أصبت فمن الله و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان و الله أسأل أن ينفعنا بما علمنا و أن يغفر لنا ذنوبنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الله بلال القسنطيني الجزائري.
=====
[1]: أخرجه الهندي في كنز العمال برقم (12957) و (12972) ، وفي كشف الخفاء برقم( 166). و الحديث حسن بمجموع طرقه.
[2]: مجموع الفتاوى لابن تيمية (375/31-383)
[3]: موقع الشيخ ابن باز رحمه الله _ حكم من جامع أخت زوجته التوأم التي زفت إليه فلم يفرق بينهما_
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][4]: رواه ابن ماجه برقم ( 2291 ) وابن حبان في صحيحه ( 2 / 142 ) من حديث جابر ، وأحمد برقم (6902 ) من حديث عبد الله بن عمرو ، و صححه العلامة الألباني في إرواء الغليل (3/323) برقم (838) .
وفي الحديث فائدة فقهيَّة هامَّة وهي أنه يبيِّن أن الحديث المشهور " أنت ومالك لأبيك " ليس على إطلاقه بحيث أن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء ، كلا ، وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه . والله أعلم .
[5]: إعلام الموقعين لابن القيم ( 1 / 116 ) .
[6]: كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري (5 /141 ) والمغنى لابن قدامة (1 /149).
[7]:مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (32/27).
[8]:بيان الدليل (ص: 171).
[9]: كشف القناع عن متن الإقناع للبهوتي (5/406).
[10]: إجماعا : انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (34/10).
[11]:مجموع الفتاوى لابن تيمية (43/15-16) بتصرف يسير.