االفصل الأول :وبينما أنا أغادر المكان إذ هي تنادي مرة أخرى ، تريد أن تخبرني بأني قد ضيعت ملفي للعمل هناك . ذهبت مسرعا بعد هذا وأنا في طريقي إلى منزلي الخشبي الذي هو أشبه بالكوخ القصبي المتقعر .طبعا وأنا الذي أبحث عن عمل يلبي حاجياتي وحاجيات منزلي .
إذن غابت عن نظري مناظر الطريق في الحافلة على غير العادة . أفكر ماذا أصنع اليوم من أين آكل . وفي قلبي أمل بأن أقتات من عند الجيران مثل كل مرة . أسرعت كي لا تفوتني دورات المزابل الليلية.وأنا أمشي لفت انتباهي شيخ ذهبي بعمامته أبيض بعباءته جالس كما يجلس العلماء ظننته رجل علم وأدب وهو كذلك . تبسم لي و في عينيه الفرحة العارمة كأنه يعرفني . قال يا بني ما بك تمشي مسرعا تمهل تبسم مرة أخرى وقلت بعد الجلوس يا عمي هاك قصتي واعطني حلها تنهت : ها أنت ذا كأي كان تسرع وراء الأكل لتملأ معدتك بعد جفاء طويل مثلي تماما ألا تعرف الصبر من القلق ؟ قلت مسرعا :يا حاج إذا أنت مثلي فتعالى معي نتقاسم ما نجد هناك . لم يلبي الدعوة قط حتى وبعد أن ألححت عليه . قال اذهب علنا نلتقي مرة أخرى نتشا طر فناجين الحكايا .
ذهبت إلى منزلي بعد ذاك ، وإذ بي أجد ما رزق الله به عباده أكل هنا وهناك. شموع تذوب وصوت كمان عذب تندرج أنغامه لتصب على أذني كندى المساء . من أين جئت هكذا قلت . لم يتكلم فأعدت ما قلته بنرفزة واضحة . رد اسمع لحن الخير والإيمان .
كل ما شئت و اترك الرزق الكثير و وزع كما وزع عليك . لا تفرط فيه علك تجده مرة أخرى . ردد تلك العبارة وذهب في سبيله كأنه ملك مشع نزل و عاد إلى السماء مرة أخرى ، أكلت وشربت بالطبع بعد إرهاق طويل وأنا أفكر في الشيخ الذي التقيت به هذا المساء لعله سبب من أسباب تلك المائدة المدججة بأشهى المأكولات. وبعد أن ذبل وجهي كما يذبل الورد نمت على إيقاع الفرح والغدير . .............
استيقظت صباحا على أمل أن أجد ضالتي في العمل لأسدد فواتير الجوع الطويل ، لكن دون جدوى مسلسل المصائب يتهافت علي حلقة بحلقة .
وقد توقت لأن أراني أمضي عقد عملي كموظف بسيط في تلك الشركة ، حتى ولما وصلت إلى هناك سمعت من وراء الباب * صدفة * صوتا شجيا يقول : اذهبي واتصلي برجل الأمس وأخبريه أنه سيبدأ عمله هنا غدا ، لم أتمالك نفسي و فجأة ظننت أنهم يتحدثون عن شخص آخر . ولما خرجت تلك الموظفة نظرت إلي بنظرة عين فرحة وقالت : حظك أوفر أنت حسام صحيح . قلت : نعم ، قالت خذ امضي هنا وهنا غدا ستبدأ العمل . وهذا جدول التوقيت ، وهذا أجرك ، نظرت إلى الأجر ووجدته زهيدا مقارنة بما سأقدمه من أعمال شاقة ، فقلت في نفسي لا مشكلة . أنا أصلا وحيد وهذا الأجر يكفيني دون شك ، فليس لي زوج و لا أولاد .وحيد وحيد .
بالفعل أتيت في اليوم الموالي على الساعة السابعة بالضبط كما أرشدت تلك الموظفة ولم يكن علي أن أتأخر فهذا عملي والعمل قليلا ما تأتيك فرصه ، دخلت إلى قاعة الموظفين، فوجدت فريق عمل كبير كأنه جحافل إحدى المعارك. وساحات المناشف هنا وهناك ، قلت سلامي وانضممت إليهم ، بدأنا العمل بعد ذلك . وباشرنا إلى ساعة الراحة الجماعية12.00 ، وهي الفترة التي نستريح فيها ونفطر على إيقاعها ، وبينما نحن نتناول الغداء تعرفت إلى أحدهم اسمه مصطفى وهو شاب في مثل سني ، عامل مجتهد وأبوه خياط ، تبادلنا أطراف الحديث برهة وسألني عن أهلي فذكرته بأني وحيد ليس لي أم ولا أب أو بالأحرى يتيم ، فتأسف على حالي وقال ، أنا أيضا يتيم أمي التي ماتت وهي تلدني ، فتأسفت أنا الآخر، وقال أن الناس لا يمكثون يستهزئون به لأنه يتلعثم في الكلام ، وأبوه خياط ، مقابل أنهم عاديون أغنياء ، وهو دائما يقول : لا مفر من حياة البؤس و الذل .
المهم أكملنا العمل بعد ذلك ، ننظف تارة و ندهن الجدران تارة أخرى في أحد المنازل التابعة للشركة أو بالأحرى ملك لها ، وأنا الذي رأيت بأم عيني صورها على عقد عملي ، كنا جد منشغلين حتى نزلت قطرات العرق من أجسادنا تتراقص على الأرض كما ينهمل المطر ، انتهينا من عملنا جميعا، وعاد كل عامل أدراجه ، بيد أن مصطفى لم ينته ، فكانت تنقصه بعض الجدران ليدهنها وهذا ما أخرني أنا أيضا لأني ساعدته ، إلا أنني ذهبت معه إلى بيته ليعرفني بأسرته الكريمة بعد ساعة كاملة من الإقناع والطلب والرجاء، ركبنا الحافلة متجهين إلى المدينة التي تبعد عن منزلي بحوالي 5 كلم ، تحدثنا في طريقنا إلى المنزل فقلت : يا مصطفى ستشرفني إن أتيت عندي غدا إلى بيتي المتواضع بعد هذا ، فقال : حسنا ولكني أريد أن تبيت عندي الليلة في غرفتي لأن الحال يبدو متأخرا والسماء ستمطر على أية حال ، فرفضت لأن ذلك ليس من سلوكي عدا إني أصاب بالحرج أحيانا ، وصلنا أخيرا إلى بيته ، فوجدته مناسبا لأن يرتاح فيه المرء بعد عناء وتعب طويلين ، حديقة صغيرة هنا وأشجار هناك، كان مصطفى محقا فالسماء قد بدأت ترسل خيوطا رفيعة من الأمطار تنذر بأنه يوم مطري في فصل مطري ، لتشع بركة الماء فتصنع نورا خافتا ، دخلنا إلى المنزل ، ووجدنا أباه الذي فتح لنا الباب ، فرحب بنا وبي خاصة ، إلا أننا لم نمكث كثيرا حتى نادى أخو مصطفى الصغير علي (أخوه من أمه )علينا لنلتحق بالعشاء فأطللنا على مائدة متوسطة تحمل في زواياها لحما هنا وحساء هناك ، وزوجة أبيه ) خالتي سمية )حاملة كؤوس العصير على سينية صغيرة ، وعندئذ كان أبو مصطفى (سي عمر ) يحدثني عن حالي وحال أسرتي ، وعن عملي مع مصطفى وإن كنت أجد راحتي هناك وما إلى ذلك من الأسئلة المعتاد طرحها ،وكان علي بجانبي فيحضر لي عصيرا من جهة و يضيف لي لحما من جهة أخرى حتى أنني ظننت أنه أخي أنا وإن كنت قد تمنيت حدوث ذلك، وهكذا حتى انتهينا إلى مائدة الشاي فشربنا ، ضحكنا ولعبنا ثم أتى وقت رحيلي ، استأذنت الجميع بعد ذلك للمغادرة فأوصلني مصطفى إلى الطريق العام ، أوقفت سيارة أجرة عائدا إلى قريتي وإلى بيتي ، وحين كانت السماء تنزل مطرا كنت قد تشرفت بالنزول من السيارة متجها إلى البيت ، وما أقلقني أن لا أجد الرجل الذي كنت أصادفه كلما أمر من هناك ، بالفعل لم أجده فاستغربت للأمر ، ورحت أحاور نفسي ، أين هو – لم يأت اليوم – لماذا ؟ ، تأسفت كثيرا بعد ذلك ، دخلت إلى المنزل فأشعلت الضوء وفجأة راودني الخيال نفسه الذي شاهدته أمس ، كوخي كله شموع مضاءة متربعة على أرجاء غرفتي، وذاك اللحن الطروب يصاغ مرة أخرى ، أدركت أنها الحقيقة ، فكل شيء جاب خاطري تلك اللحظة ، أنني أحلم سأستيقظ من الحلم كابوس وما إلى ذلك ، وما طمأنني أن لاحظت شيخ الأمس الذي أحسست للوهلة الأولى أنه رجل صالح تقي عبد كريم نصوح ، تتجلى فيه كل الصفات الحسنة ، فقال مرحبا ، تبسمت ورددت ، أترحب بي في منزلي ؟ ، فقال أنت الذي دخلت علي هنا ، وفجأة دق ناقوس الخطر على قلبي ، كيف دخلت هنا ، من أدخلك؟؟ ، فتعجب لأمري ، لا أريد أن أسرقك ، لا تخف اجلس فقط ، فوجدتني أجلس وحدي كأنه ألقى علي تعويذة سحرية من تلقاء نفسه ، وعنى بالحرف الواحد أن قال : من أبوك ، قلت لا أعلم ، ثم قال ومن أمك : فقلت أخبرتك بالأمس أني وحيد الأم والأب فلماذا تعيد نفس الأسئلة علي ؟وكان انزعاجي منه بسيطا ، فراح يسرد لي عن حياته وكيف يعيش حتى أني لم أطرح عليه السؤال المباشر ليجاوبني فلم أقل :كيف تعيش ومن أنت ؟ ... الخ .
وبنبرة صوت خافتة قال : أنا اسمي الشيخ أحمد ، فقلت وأنا حسام ، رد أعيش وحدي مثلك تماما وليس لي منزل حتى ، فقلت ومن أين تأتي لي بهذا الطعام إن لم تكن غنيا ، فقال إنه أكل الخير منتوج الدعاء الكثير ، وبدأت أصدق الأساطير التي بدأ يسردها لي ،وبعد أن غلبني النعاس المجحف دعوته أن ينام معي فلبى الدعوة ، وإذ بنا ننام حتى الساعة السادسة صباحا ، وحينئذ وددت أن أوقظه عله يريد القيام بشيء معين ، فلم أجده في سريره ، خرجت من الكوخ لغرض البحث عنه ولكن دون جدوى ورحت أصيح سي أحمد سي أحمد ، أأنت هنا .........
فتعجبت ، كيف أنه نام عندي ولم أجد له أثرا ، أغادر ؟ أذهب ليقضي حاجة ثم يعود ؟ أين هو ؟
فقدت أملي و أصابني اليأس الغليظ بأني لن أجده ، فأسرعت إلى العمل بعد ذلك وإذ بي ألمح مصطفى من بعيد آت وحده ، فأسرعت إليه وألقينا التحية على بعضنا البعض ثم دخلنا لمكان العمل سويا ، وما هي إلا لحظات قليلة حتى نودي علينا لننظف شقة أخرى مجاورة للتي كنا نعمل فيها ، وانقسما إلى مجموعات كل في عمله ، واحد يدهن والآخر ينظف والآخر يركب الأسلاك الكهربائية وهكذا ، ومن حسن حظي أن كان مصطفى في مجموعتي ، ولهذا كنا نتبادل الكلام فيم بيننا ونعمل ونساعد بعضنا ونبدل أعمالنا أن لا نشقى ، وقد كان لي رفيق في تلك المجموعة اسمه إسماعيل وهو كهربائي متمرن فذ ، حيث تعرفت عليه هناك وعرفته بمصطفى فوجده على ما وجدته أنا . إنسان محب شغوف وعامل جيد وبسيط يحب الخير ...الخ .
أما في المساء اصطحبت مصطفى معي إلى المنزل كما اتفقنا ، وأملي أن أجد سي أحمد كي ندردش معا في منزلي، بالفعل وجدته منتظرا عند الكوخ كأنه يبحث عني ، عرفته هو الآخر بمصطفى (الذي كنت قد سردت له قصة التقائي مع الشيخ في عملنا ) .
فقال الشيخ : بعد هذا أريد أن أحاورك حوارا جادا فلا تتأخر علي وكان قد ذهب ليعود ، أما أنا فأوصلت مصطفى إلى غاية منزله ثم عدت مع سيارة الأجرة خاصة أن الجو كان لطيف والمنزلان لا يبعدان عن بعضهما البعض إلا ببضع كيلومترات .
وعدت مسرعا إلى منزلي وأنا أتلهف لما سيروي لي الشيخ ، وما هي إلا لحظات حتى أطل علي متغير الحال ، منار وجهه مبيض والرائحة فيه ازدادت زكاوة ، فدخلنا سويا إلى منزلي ، وطبعا قمت بإحضار الشاي ، وأنا أتكلم معه لمست في كلامه بعض التغيير على ما كان عليه من قبل ، فبدأ يضيف مصطلحات توحي بأنه يعرفني تمام المعرفة ، وفاجأني أن أراني صورة لأمي ولم أكن قد رأيتها من قبل إلا بضع مرات ، فقلت : يا سي أحمد من أين أتيت بهذه الصورة ، فتبسم وقال : وما رأيك أنت بها ، فاندهشت وقلت : أتعرفها أخبرني عنها ، قال : هي إبنتي ، إنهملت من عيني الدموع ، ولم يكد الشيخ يكمل كلامه حتى أوقفته : أنت جدي أنت جدي ،تكذب علي ، فأراني دفترا لعائلته مسجل عليها إسم أمي ( فاطمة ) وصورة أخرى لها معه ثم قال : كنت أعرف أنك لن تصدقني فأحضرت معي هذه الأدلة ، ولم يخفي حزنه لفقداني فاستسلمنا للدموع التي انهملت مني وومنه ، ولم يكن علي إلا أن أصدق ما رأيت ، ثم سألته : ومن أين عرفتني ، ثم إن أمي لم تترك عنك انطباعا كأن لنا جد مثلا ، فقال قصتي مع ابنتي قصة ، فقد توفيت قبل أن تسامحني ، قاطعته ولماذا تسامحك ، ماذا فعلت لها ، وبدأ يسرد لي ما جرى أن قال : قبل ان تتزوج أمك ببضعة أيام جرى مايلي ، فقد كنت على علاقة غير جيدة مع زوجتي التي هي جدتك .