العافية هي كنية النار في تراثنا، حيث أطلق الأولون اسم العافية علي النار،
والعافية اسم جاء من الفعل- عفو- والعفو هو الصفح مع القدرة علي الضرر، وكذلك
النار... وأطلقت علي النار هذه الكنية ابتعادا عن لفظ نار حيث إن النار فيها
المنفعة و الضرر وفيها الربح والخسارة، والإنسان لا يبغي من النار إلا منفعته
والاستفادة منها دون إن تلحق به الضرر وبما أن أسم النار يعطى شمولية وفعالية النار
بوجهيها النافع والضار لذا أتخذ الأجداد أسم العافية للنار، وهذا يدل على وجه
الفائدة للنار دون الضرر.
وفي
هذا تمسكا رفيعا وساميا بمعاني الحياة وتأدبا وأدبا في اللغة والخطاب، والتماسا
للبركة والخير حتى في اختيار الأسماء والمرادفات عند أسلافنا، ولا ينطبق هذا علي
تسمية النار فحسب بل علي أشياء أخرى فهم علي سبيل المثـــــال يطلقون علي
الفحم"البياض" ويطلقون علي الحيوان الأسود"أسعد" أو "أزرق" ويطلقون علي الرياح
الشديدة التي تهب قبيل فصل الربيع ومع مختلف الجهات"المباركات"لأنها توافق رياح
الحسوم– المذكورة بالقران الكريم- طبقا للحساب الشعبي للأنواء... وغير ذلك
كثير.
كذلك كنية العافية لا تطلق عند أسلافنا على النار فقط بل تعنى عندهم
أيضا الصحة العامة عند الفرد، لان كلاهما أي الصحة والنار مصدران للطاقة، فيقول
أحدهم عندما يلتقي الأخر بعد السلام والتسليم "أيش حال عافيتك" فيرد الأخر "الحمد
لله الله أيسلم عافيتك" وفى هذه التحية الأمل والرجاء لرب العالمين بدوام الصحة
معفاة من الأسقام.
أيضا عندما يمر الرجل على المرأة أو مجموعة النساء وبعد
إفشاء السلام يحيهن بقوله "عوافى" أي أتمنى أن تكن جميعا بصحة جيدة ومعنويات عالية،
ولابد لذلك الرجل أن يتمنى أن تكون المرأة في مجتمعه سليمة تتمتع بصحة جيدة وروح
مطمئنة، حيث أن المرأة في مجتمعنا القديم هي الأم بالمعنى الشامل لكل شي، وبدونها
يستحيل سير الحياة بشكل طبيعي، فهي ربة البيت التي تقوم بتنسيقه وإقامة كل شؤونه
علي أكمل وجه، فهي الصانعة التي تصنع الغطاء والملبس من الصوف الخام حتى أخر مراحل
تلك الصناعة، وهى التي تصنع الغذاء من الحبوب مرورا بمراحل التصنيع والتحظير والطهى
إلى أن يصبح غــــــــذاء طيبــــــــــــا وهى التي تقوم بجمع الحطب من أماكن
متفرقة لاستخدامه في الطهي والتدفئة، وهى التي تقوم أيضا بجمع الحليب من الحيوان
وتصنيعه بعدة وسائل متعبة لاستخراج مشتقاته من لبن وزبد وسمن وجبن، وهى التي تقوم
بإحضار الماء عندما تكون البئر غير بعيده، وكل هذه المشاق المضنية وغيرها تقوم بها
السيدة المرأة إلى جانب إنجاب الأطفال وعنايتها بهم ورعايتها لزوجها، وفي الوقت
نفسه أنها لا تهمل شوؤنها الخاصة الأخرى مثل العناية بجمالها واناقتها، فكيف وهى
كذلك لاترتجى لها العافية والمعافاة.
و بالتالي أصبحت كنية "عوافي" تعني
المرأة أو جمع النساء، وإلا كيف تغني فناننا بكلمات الشاعر التي تقول "تمسي عليك
العين يالعوافي... سهران وإلا في منامك غافي".
ومن البديهي إن النار
تستخدمها كافة المجتمعات ولاغنى عنها لأحد وينحصر استخدام النار قديما في الإنارة
والطهى والأستدفاء والصناعة.
ومجتمعنا القديم شأنه شأن المجتمعات الأخرى في
استخدامات النار، غير أنه يتعامل معها بحذر شديد، فمعنويا أطلق عليها كنية طيبة،
وماديا بإيقادها في أماكن خاصة في البيت وفى الخلاء وحساب اتجاه الريح قبل
إشعالهـا.
ولعلك تقول إنه حتى الآن يتم التعامل مع النار بحذر وخاصة في
الأماكن العامة مثل منع التدخين في محطات الوقود، ومنع نقل الأشياء القابلة
للاشتعال في الطائرات وغير ذلك، لكن الذي أقصده هو تقيد الجميع والتزامهم في
مجتمعنا القديم في التعامل بحذر ودون تهاون مع النار وبشكل ذاتي، ويطبق ذلك تماما
الكبير والصغير ذكرا كان آو أنثى، ذلك لأن نشوب آي حريق في البيت يعني فقدان كل
شيء، السكن و الغذاء والغطاء، خاصة وان اغلب محتويات البيت قابلة للاشتعال لأنها
آما منسوجات آو أخشاب او حبوب، ناهيك عن تجاور بيوت النجع، فإذا ما نشبت النار في
أحد البيوت فأنها تنتقل للبيوت المجاورة وتتضاعف الخسارة وتصبح عامة.
لذلك
فان إيقاد النار داخل البيت له قواعد خاصة تتمثل في حساب أتجاه الريح قبل كل شيء
بحيث يكون لسان اللهب عكس البيت،ويحاط المكان الذي توقد فيه النار بالحجارة حتى لا
تتسرب جمرات من النار أرضا وتتسبب في حريق، و مكان إيقاد النار في البيت يكون على
شكل حفرة حتى يستقر بها الجمر بعد خمود اللهب.
كذلك
عندما لا تكون هناك حاجة لاستخدام النار ولا يزال متبقي منها جمرا يتم ردمه و توضع
صفيحة معدنية أو لوح من الصخر عليه منعا لانتشاره إذا ما هبت ريحا قوية وخاصة في
الليل.
وهذا الاحتفاظ بالنار دون إطفائها راجع لعدم توفر أدوات إشعال النار
الحديثة مثل الولاعات وأعواد الكبريت، حيث كان يتم إشعال النار قديما بواسطة حدوة
الزناد وحجر الصوان وأنواع من الحشائش وغيرها تختلف من مكان لأخر حسب طبيعة
النباتات والأشجار المحيطة.
غير أن أداة الإشعال الرئيسية عموما هي الزناد
والصوان، حيث يتم شحذ أحدهما بالأخر يدويا لتتولد شرارة وتشتعل تلك الحشائش ثم
تنتقل لأعواد الحطب لتصبح نارا.
ومن هنا تتضح
الصعوبة في الحصول على النار، لذلك فأنه لايتم إطفاء النار والتخلص منها نهائيا بعد
الحاجة، بل يتم وضع أرومة شجرة كبيرة الحجم مع بعض الجمر وتردم بالرماد كما أسلفنا
ويوضع حجر مسطح أو صفيحة فوق الرماد وتسمى هذه الطريقة "وريثة" آي أنها تبقي علي
النار فترة طويلة تحت الرماد ثم تورث منها النار ثانية عند الحاجة لاستخدامها
مجددا، ويلجا آهل البيت إلي هذه الطريقة من فترة النوم حتى الصباح.
أما عن
نقل النار من بيت لأخر وهذا أمر شائع في النجع، فهناك بيت مثلا لا يملك أهله أداة
لإشعال النار، أو ليس لديهم وقت كافي لإيقادها، لهذا يأتى أحدهم بقبس من نار
الجيران، ويتم ذلك وفق إجراءات أمن وسلامة بالغة الدقة حيث يتم نقل جمرات قليلة
جداً وفى أداة محكمة تسمى "المقباس" وهى تسمية عربية صحيحة، ويجب أن لا تكون هناك
ريح عاتية مثل ريح القبلي، ويمنع نقل النار من بيت لآخر قبيل الغروب، ويتشاءمون من
ذلك إذا وقع تحت ضرورة قصوى، ومصدر ذلك التشاؤم أنه لو تسبب نقل النار في الحريق
ليلا فإن الخسارة ستكون مضاعفة نظرا لعدم القدرة والسيطرة على إطفاء الحريق لان
الظلام يمنع أي محاولات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعيدا عن موقع الحريق، بالإضافة إلى
أن الحيوانات يكون أغلبها قد جاء من المرعى وهى في حظائرها "المراح" وهو سياج مصنوع
من الأشجار الجافة قرب البيوت و تأوي إليه الأغنام والماعز ليلا.
]
أيضا
يمنع الصغار من اللعب بالنار منعا باتا ويخوفوهم أهلهم بأنه من يلعب بالنار وخاصة
الإيماء بالعود المشتعل "المنشاب" سوف يؤدي ذلك إلى التبول في الفراش دون
إرادة.
أما عن إيقاد النار في الخلا وهو عادة ما يقوم به الرعاة والحاصدون
والباحثون عن حيوانات ضالة أو مرعى أو ماء أوصيد أو غيره، فهؤلاء أيضا يقومون
بإشعال النار فى حفرة محاطة بالحجارة ويتم إطفاء النار نهائيا والتأكد من ذلك عند
مغادرتهم المكان وخاصة فى فترة الحصاد وتيبس الحشائش والتي تسمى بفترة
"الحصيدة".
وهكذا فأن التعامل مع النار بحرص شديد موجود لدى المجتمع القديم
في الحل والترحال بشكل فردى أو جماعى ذلك لأن نشوب الحريق يعنى الخسارة للجميع فى
الوقت الذي لا يملك أولئك من وسائل الإطفاء والسيطرة على الحرائق
شيئا.
وبالإضافة إلى أهمية النار في النجع، فأنها جميلة المنظر إذا ما أتقدت
أمام البيت وشوهدت في أوقات إشعالها الرئيسية، وذلك في الصباح الباكر قبيل طلوع
الشمس وفي الظهر و أجملها عند الغروب والتي تستمر متقدة أمام البيت حتى
العشاء.
كذلك نار الخلاء لها منظر أخاذ لايمكن وصفه وخاصة عند مشاهدتها ليلا
وعن بعد، لدرجة إن الشعراء أخذوا بها و يشبهون جمال وجه المرأة بنار الخلا تحت جنح
الظلام وقد قال أحدهم قديما "يا مريم يا بنت الجوده... عينك سوده... خدك نار خلا
ميقـوده" وانظر كيف جانب الشاعر سواد العين إلى شدة إضاءة الخد بحمره، وكيف أسقط
ذلك بالتشبيه علي الظلام الدامس في الخلاء وجمال اتقاد النار في ذلك
الخلاء.
ومن المعروف إن
مادة إشعال النار المتوفرة قديما هي الحطب، وذلك سارٍ علي أسلافنا أيضا، ويتحصلون
علي الحطب الجاف من الأشجار الجبلية أو الصحراوية ومن الشجيرات الصغيرة التي تنمو
في الأراضي شبه الصحراوية، وبطبيعة الحال فإن المرأة هي المكلفة بجمع الحطب دون
غيرها وعادة ما تقوم بذلك في فترة ما بعد الظهر، ويتمثل ذلك وبشكل يومي في خروج
مجموعة من فتايات النجع إلي مكان توفر الحطب ويسمي"المحطب"– بتشديد الطا- وعند
وصولهن إلى هناك تكون كل واحدة منهن قد أحضرت قطعة حبل طويلة نسبيا تسمي "المكراب"
ويطرح ذلك المكراب أرضا وتقوم الفتاة بجمع اعواد الحطب ثم تهذبها من الزوائد
والتشعبات وتصبح جميع الأعواد شبه مصقولة ومتقاربة في الطول وتسمي هذه العملية
"القصملة"، ثم تقوم تلك الفتاة بوضع الأعواد بشكل تقاطعي فوق الحبل في شكل منسق
وفوق بعضها البعض ثم تقوم بشد طرفي المكراب وربطهما ببعضهما بقوة حتى لاتنفلت اعواد
الحطب والمسماة "حزمه" إن كانت صغيره و"عنقاله" إن كانت كبيره، ثم تقوم الفتاة
الحطابة بحمل تلك الحزمة أو العنقالة فوق رأسها بعد أن تكون قد وضعت أغصان خضراء أو
قطعة نسيج سميكة بين فروة رأسها وذلك الحمل الثقيل، ويحذر علي أولئك الفتايات
الحطابات إحضار حطب أخضر أو فروع أشجار خضراء بغية استخدامها كوقود للنار وحتى وأ ن
كان هناك عود أخضر تم جلبه بالخطاء فأنه يمنع وضعه في النار كوقود، وفي ذلك احتراما
وتقديرا ومحافظة علي الطبيعة الحية وخاصة الأشجار.
وعندما تصل الفتاة بحمل
الحطب المذكور ترمي به ارضا أمام البيت ثم تفك ذلك المكراب وتقوم بتصنيف أنواع
الحطب كل علي حدة، فالأعواد الرفيعة سريعة الاشتعال وسريعة التحول إلى رماد تكون
وقودا للتنور، والأعواد السميكة نسبيا توضع بالقرب من الحفرة التي أمام البيت،
والتي تسمى ((المكبر))- بسكون الكاف- على وزن مفعل- وهي التي يتم فيها ((كبر))
إيقاد النار وتستخدم الأعواد المذكورة في طهي الطعام أو تسخين الماء وغيره، أما
الأعواد الغليظة والأرومة فأنها تستخدم للأستدفاء وذلك بعد تحولها إلى جمر في
المكبر المذكور حيث تنقل بواسطة ((المقحاف)) وهى أداة تشبه المجرفة– إلى حفرة داخل
البيت تسمى ((الكانون)) وموقعها وسط البيت و أمام الركيزتين الرئيسيتين. حيث تجتمع
الأسرة حول ذلك الكانون وهم يتمتعون بالأستدفاء وحكايات كبار السن في ليالي الشتاء
الطويلة والباردة.
هذا
عن جمع الحطب وأوجه الأستفادة منه يوم بيوم وما في ذلك من قناعة بالعطاء اليومي
وانسجاما مع إيقاع الحياة اليومية أيضا ، وابتعادا عن الجشع وحب تملك الأشياء دون
الحاجة لها. وما منع الأحتطاب للأشجار الخضراء إلا محافظة على البيئة في لونها
الأخضر الجميل وتقديرا وعرفانا بأنها هي الرئة الأم.
فأين ذلك من حالنا
اليوم ونحن نكدس داخل بيوتنا عدة إسطوانات من غاز الاشتعال ولا نكتفي بواحدة أو حتى
اثنتين وننام في بيت محكم الإقفال بالقرب من ذلك البركان الذي لو أنفجر لاقدر الله
لكانت الكارثة جسيمة، وأين نحن منهم ونحن لا نحترم ولا نقدر البيئة وخاصة الغابات
والمساحات الخضراء وحرقنا لغاباتنا ونحن نتنزه فيها ونترك نار ((الزردة)) مشتعلة
دون أن نكلف أنفسنا عناء إطفائها، فتلعب بها الريح ويتقافز منها الشرر ليحرق الأخضر
واليابس.
ولقد ورد أسم النار في الأدب الشعبي وهو بمثابة أحد الثوابت
الرئيسية في الأدب.شأنه شأن الثوابت الأخرى مثل الموح- والغلاء– والصوب- وغيرها..
غير إن اسم النار لا يرد في الأدب الشعبي كثابت بمفرده ولكن لابد إن يلحق به مرادفا
أو ثابتا آخر وذلك ليفعل ذلك المرادف مثل- نار الغلا- نار عزيز- نار لولاف – نار
المرهون – نار الشوق– وخلافها من النيران..
وورود اسم النار في الأدب الشعبي
يأتي امتدادا لوروده في الأدب العربي بصفة عامة ويستخدمه العرب منذ القدم وحتى ألان
في أشعارهم مثل – نار الحب– نار الشوق– نار الغيرة– كما يستخدم هذا المرادف عند
العرب حتى في التعابير الأخرى مثل– نار الحرب– نار الفتنة وهي اشد النيران ضراوة
وأكثرها انتشارا.
هذه مجرد محاولة أخرى للنفخ قدر الاستطاعة في قبس من
تراثنا التاريخي، ومازلت أقول بأنها مجرد محاولات قد تخطئ وقد تكون علي الصواب، و
أني أرحب بأي تصحيح أو نقد بناء من اجل الوصول إلى دراسة مجهرية والوصول إلى جوهر
هذا التراث الإنساني الفريد، وفي النهاية سنصل إلى النتيجة المرجوة لنترك أثرا
خالدا إلى الأجيال القادمة.. حتى لا تختلط عليهم المفاهيم في عصر الغزو الثقافي من
الأرض والفضاء.. والله من وراء القصد.
وبعودة إلى موضوع النار "العافية" في
تراثنا آمل إن أكون قد استطعت إن ابرز استخدام هذا العنصر الهام في حياتنا ماديا
ومجازيا..
وحفظنا الله جميعا من مضار نار الدنيا وعذاب نار الآخرة.. والي
اللقاء.