أصبحت العولمة هي الظاهرة البارزة التي تهيمن علي المناخ السياسي والاقتصادي والثقافي ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين.
ولو حللنا التراث الفكري المعاصر لوجدنا ان هناك خلافات شتي تدور بين العلماء والباحثين والمفكرين في مختلف البلاد حول تعريف العولمة وتحديد طبيعتها, وتقييم آثارها الايجابية والسلبية, بل والتنبؤ بمستقبلها.
ولو اردنا ان نسوق في هذا المجال ـ تمهيدا للمناقشة التفصيلية ـ تعريفا اجرائيا للعولمة لقلنا انها هي التدفق الحر للمعلومات والأفكار والسلع والخدمات ورؤس الاموال بغير حدود ولاقيود.
والواقع انه إذا اردنا ان نقترب من صياغة تعريف شامل للعولمة, فلابد ان نضع في الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهرها.
العملية الأولي تتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح متاحة لدي جميع الناس, والعملية الثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول, والعملية الثالثة هي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات, وكل هذه العمليات قد تؤدي إلي نتائج سلبية لبعض المجتمعات, وإلي نتائج ايجابية بالنسبة لبعضها الآخر.
وقد اتجه بعض الباحثين إلي تحديد المواد والنشاطات التي ستنتشر عبر الحدود بفضل العولمة, وقسموها إلي فئات ست: بضائع, وخدمات وافراد وافكار ومعلومات ونقود, ومؤسسات واشكال من السلوك والتطبيقات.
ويمكن القول ان كل فئة من هذه الفئات تثير مشكلات متعددة, ففيما يتعلق بالبضائع هناك عدم توازن ملحوظ بين القدرة الانتاجية للدول الصناعية المتقدمة والدول النامية, مما يسمح للأولي ان تغزو الاسواق العالمية ببضائع معتدلة الثمن وعالية الجودة في نفس الوقت, بالاضافة إلي تنوعها غير المحدود.
اما فيما يتعلق بالخدمات فمن المؤكد ان الدول المتقدمة لديها في مجال الخدمات التي قد تشمل مهن المحاماة والمحاسبة مثلا, شركات بالغة القوة قد توثر سلبا علي البلاد النامية, اذا ما فتحت لها ابواب الممارسة فيها.
وفيما يتعلق بالأفكار والمعلومات, يمكن القول ان عديدا من بلاد العالم الثالث تعاني من فقر فكري متراكم, مما يجعل قدرتها علي التنافس الفكري مع الدول المتقدمة محدودة, وفيما يتعلق بالمعلومات, فدول العالم الثالث نصيبها في انتاج المعلومات العالمية جد محدود, مما يجعلها عالة في هذا المجال علي الدول المتقدمة, بما في ذلك من سلبيات.
وفيما يتعلق بتدفق رءوس المال, فيمكن ان تكون له آثار مدمرة لبعض اقتصاديات الدول النامية, اذا اطلقت من عقالها بغير قيود مناسبة, وقد رأينا في انهيار الاقتصاديات الآسيوية منذ سنوات نموذجا لهذه التأثيرات السلبية, بالاضافة إلي الازمة المالية العالمية الراهنة.
ويثار السؤال: هل تقبل العولمة فعلا حرية انتقال الافراد؟ واذا كان هذا صحيحا نظريا, فلماذا تضع البلاد الأوروبية عديدا من العقبات امام المهاجرين الاجانب واغلبهم من بلاد عربية وإسلامية, بالرغم من شدة حاجة دول الاتحاد الدول الأوروبي لهم؟
اما اشكال السلوك التي يمكن ان تنتقل فقد تمثل ـ في نظر البعض ـ نوعا من انواع الغزو الثقافي, في حين ان المؤسسات ومن ابرزها المؤسسات الديمقراطية, قد تثير مقاومة بعض النظم السياسية التي تريد الاحتماء وراء حجة الخصوصية الثقافية, لمنع تطبيق مبادئ الديمقراطية وقيم حقوق الانسان.
غير انه يضاف إلي كل ما سبق ان العولمة قد تساعد علي نقل الامراض والاوبئة بسرعة خارقة, نظرا لسرعة تنقل البشر في وسائل الاتصالات الحديثة وأهمها الطائرات ولهذا زادت مخاوف الحكومات في الفترة الأخيرة من انتشار وباء انفلونزا الخنازير نتيجة تنقل الناس من قطر أصابه الوباء إلي قطر آخر, كما حدث في الانتقال من المكسيك إلي الولايات المتحدة الأمريكية.
وهذه المشكلة تثير في الواقع موضوع نشوء مجتمع المخاطر في عصر العولمة.
ومجتمع المخاطرRisksociety مفهوم ابتكره عالم الاجتماع الالماني ايرليش بكBeck وهو يحتاج إلي دراسة دقيقة, لانه يكشف عن احد أهم التغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالمي.
وقد اقام عالم الاجتماع البريطاني انتوني جيدنجز العلاقة بين العولمة والمخاطر حين قرر ان العولمة تؤدي إلي نتائج بعيدة المدي وتترك اثارها علي جوانب الحياة الاجتماعية جميعها تقريبا, غير انها باعتبارها عملية مفتوحة متناقصة العناصر, تسفر عن مخرجات يصعب التكهن بها أو السيطرة عليها, وبوسعنا دراسة هذه الظاهرة من زاوية ما تنطوي عليه من مخاطر, فكثير من التغيرات الناجمة عن العولمة تطرح علينا اشكالا جديدة من الخطر, يختلف اختلافا بينا عما ألفناه في العصور السابقة.
لقد كانت أوجه الخطر في الماضي معروفة الاسباب والنتائج, اما مخاطر اليوم فهي من النوع الذي يتعذر علينا ان نعدد مصادره واسبابه, أو نتحكم في عواقبه اللاحقة.
غير انه قبل ان نشرح المفهوم وابعاده وتطبيقاته في المجتمع المعاصر لابد لنا أولا ان نتعقب تطور المجتمعات الانسانية ـ كما رسمها ايرليش بك ـ من المجتمعات التقليدية إلي المجتمعات الحديثة الراهنة, أو لنقل بعبارة اخري المجتمعات ما بعد الحديثة لعلاقة هذا الموضوع بنشوء مجتمع المخاطر.
يقسم ايرليش بك المجتمعات إلي ثلاث فئات: مجتمعات تقليدية ومجتمعات نشأت في بداية عصر الحداثة, والمجتمعات الحديثة الراهنة.
والفئة الأولي هي المجتمعات التقليدية والتي كانت سائدة في أوروبا في بداية الحقبة الحديثة وخلال القرن الثامن عشر, وفي هذه المجتمعات نجد مؤسسات تقليدية عاشت قرونا وانتقلت تقاليدها من جيل إلي آخر, وشكلت حيوات الناس, واعطت لها معاني ودلالات, وكونت مجتمعات انسانية, وفي هذه المجتمعات لم يكن هناك تركيز علي الذات الفردية, لان الفرد كان ذائبا في المجموع, وابرز مؤسسات المجتمعات التقليدية كانت هي الكنيسة التي كانت مصدر امداد الناس بالمعني, والأسرة الممتدة التي كان الفرد ينشأ في رحابها ويصبح جزءا من شبكة واسعة من العلاقات واخيرا مجتمع القرية المحلي, والذي كان يعطي الفرد دورا وهوية.
غير ان المجتمعات الانسانية تغيرت حين جاء عصر الحداثة في مراحلها الأولي, وخصوصا في بواكير القرن السابع عشر, حيث اصبح الشعار السائد هو الحرية الفردية والاستقلال, بمعني ان الفرد بدأ يظهر ككائن تدور حوله الحياة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية, وهكذا تحولت المؤسسات التقليدية إلي مؤسسات حديثة لها وظائف مختلفة.
فقد انسحبت الكنيسة من المجال العام, واقتصرت وظيفتها علي تشكيل الحياة الداخلية الخاصة للفرد, وتوقفت عن امداد الافراد بانساق المعاني والقيم التي تقودهم في المجال العام.
ومن ناحية أخري تحولت الأسرة من النمط الممتد إلي ما اطلق عليه الأسرة النووية أي الزوج والزوجة والاولاد فقط, وانفصل مجال العمل عن ميدان الأسرة, واصبح العمل يتم وفقا لعقود يبرمها الفرد من المصنع أو الشركة, وبالتالي اصبح انتماؤه للنقابة أكثر من الكنيسة كما كان الحال في الماضي.
وأهم من كل هذه التغيرات نشوء الدولة ـ الأمةstate ـnation وان كانت الشركة كمؤسسة حلت محل القرية, فإن الدولة البيروقراطية التي اخذت علي عاتقها تنظيم حياة الناس في المجتمع الصناعي اصبحت أهم مؤسسة في المجتمع لانها قننت اوضاع البشر واصبح ولاؤهم للدولة مقدما علي اي ولاءات أخري.
وهكذا يمكن القول ان الحداثة ادت إلي نقلة كيفية تتمثل في الانتقال من هيمنة المؤسسات التقليدية علي حياة الفرد, إلي سيطرة الفرد علي حياته, باعتباره فاعلا مستقلا وهو الذي يعطي ولاءه وانتماءه للمؤسسات وليس العكس.
وليس معني ذلك ان الحداثة قضت نهائيا علي المؤسسات التقليدية بل انها أوجدت بدلا منها مؤسسات جديدة أهمها الشركةcorpotration والتي تعددت انماطها الصناعية والتجارية.
ونصل اخيرا إلي الحداثة في مرحلتها الراهنة والتي يطلق عليها بعض علماء الاجتماع ما بعد الحداثة, والتي تتميز بنشوء مجتمع المعلومات العالمي الذي هو نتاج عصر العولمة.
وهذا المجتمع يتطلب عمالا مهرة متعلمين يستطيعون التعامل مع الوسائط الحديثة, ولذلك يطلق عليهم عمال المعرفة.
وقد ادي ظهور مجتمع المعلومات العالمي إلي ان الافراد نقلوا انتماءهم للمؤسسات المختلفة إلي تركيزهم علي الذات الفرديةself باعتبارها هي مصدر انتاج المعني بحكم تفاعلها مع شبكة الانترنت, وفي هذا المجال تصدق النظرية التي صاغها فيلسوف مجتمع المعلومات العالمي كاستلز حين قرر ان التفاعل الاساسي اصبح بين الذات والشبكة ويقصد بذلك شبكة الانترنت التي اوجدت فضاء عاما جديدا غير مسبوق في تاريخ الانسانية, حيث تتدفق المعلومات والافكار, مما جعل الفرد يستطيع لأول مرة في التاريخ ان يصوغ المعاني وفقا لنمط تفاعله مع الشبكة.
غير ان ما يهمنا في هذه اللوحة التخطيطية التي رسمناها بإيجاز لتطور المجتمعات الانسانية من المجتمعات التقليدية إلي المجتمعات ما بعد الحديثة انه يكمن في هذه المجتمعات الأخيرة التي نعيشها الآن العلاقة الاساسية بين العولمة والمخاطر.
بعبارة اخري ادي المجتمع العالمي المعولم إلي استحداث انواع جديدة من الخطر لم يشهدها العالم من قبل ومن بينها بدون ادني شك عولمة الاوبئة التي تننقل بحكم تدفق البشر من مكان إلي مكان اخر بسرعة, نتيجة تقدم الطيران وقدرته علي نقل آلاف البشر كل يوم من قارة إلي أخري.
وهكذا يمكن القول ان عولمة الأوبئة اضيفت إلي قائمة طويلة من المخاطر التي تسود في المجتمع الحديث وابرزها المخاطر المصنعة والمخاطر البيئية والمخاطر الصحية.
وقد اسهمت هذه المخاطر جميعا في اقامة ما سماه ايرليش بك مجتمع المخاطرة العالمي الذي نظرا لاهميته القوي وتأثيراته علي البشر يحتاج منا إلي تحليل مفصل ونظرة نقدية.