السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه تكملة للمبحث الأول حيث يلييه المبحثين الثاني والثالث
المبحث الثانى
القضاء بالفراسة
إن القضاء مهمة صعبة انتدب الله إليها بعضا من خلقه واستأمنهم على هذه المهمة وهى مهنة الأنبياء "يا داوود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى "وهى وصية الله لكل من تَنَصبَ مهمة القضاء أن يتحرى الدقة ويحكم بين الناس بالحق ولا يركن إلى الهوى .
ومعلوم اختلاف العلماء حول قضاء القاضى بعلمه هل يجوز أولا يجوز؟ والأرجح أنه لا يجوز ، لأن الحكم يقوم على الأدلة والبراهين الظاهرة والله يتولى السرائر ، لذا فإن حكم الحاكم وقضاء القاضى لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وإلى هذا المعنى أشار النبى "فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها "الحديث
والفراسة كما هو معلوم حالة فردية وفى أغلب أحوالها أنها لا ضابط لها ، وعليه فالقضاء بالفراسة أمر مرفوض وغير معول عليه حتى لا يصير القضاء فوضويا لا ضابط له بل هى أدلة وبراهين وقرائن ،والنبى ذاته قد يطلعه الله على بعض الغيب حسب إرادة الله ومع ذلك كان فى قضائه وقافا عند الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة "ولعل أحدكم يكون ألحن بالحجة من أخيه فأقضى له "
وإذا كان النبى لم يحكم فى الخصومات لا بعلمه و لا بالفراسة فأولى بنا أن نقتدى برسول الله ونقف فى القضاء عند ما توفر من الأدلة والبراهين والله تعالى يتولى السرائر
وهذا لا يعنى إهمال الفراسة على الإطلاق لكن المراد ألا تكون الفراسة مصدرا من مصادر القضاء والتشريع ومع هذا فيمكن الاستعانة بالفراسة فيما يخص الحكم والقضاء كالاستماع الى الشهود بفراسة أو التفرس فى الشهود الصدق أو الكذب حسب ما يظهر للمتفرس مما يعينه على تثبيت وجهة نظره .
يقول الإمام أبو بكر بن العربى :"إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعانى فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس ،وقد كان قاضى القضاة الشامى المالكى ببغداد أيام كونى بالشام يحكم بالفراسة فى الأحكام جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا ، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاش صنف جزءا فى الرد عليه كتبه لى بخطه وأعطانيه ، وذلك صحيح فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا ،مدركة قطعا وليست الفراسة منه ."
ويقول ابن القيم فى مسألة الحكم بين الخصوم بالفراسة :"هذه مسالة كبيرة عظيمة النفع جليلة القدر إن أهملها القاضى أو الحاكم أضاع حقا كثيرا وأقام باطلا كثيرا ،وإن توسع فيها وجعل معوله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع فى أنواع الظلم والفساد .
وقد سٌئل أبو الوفاء ابن عقيل عن هذه المسالة فقال: ليس ذلك حكما بالفراسة بل هو حكم الإمارات ، وإذا تأملتم الشرع وجدتموه يجوز التعويل على ذلك وقد ذهب مالك رحمه الله تعالى إلى التوصل بالإقرار بما يراه الحاكم ، وذلك مستند إلى قوله تعالى " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ " فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس فى الإمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده وفى القرائن الحالية والمقالية كفقهه فى كليات الأحكام أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها وحكم بما يعلم الناس بطلانه ........
فههنا نوعان من الفقه لابد للعالم منهما :
1-فقه فى أحكام الحوادث الكلية .
2-فقه فى نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل ،ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطى الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع .......
وهكذا فالحكم فى القضاء بالفراسة أمر جلل يجب الحذر منه والتحرى ففيه خيط دقيق يجب مراعاته وإلا ترتب عليه ضرر بالغ .
أما استخدام الفراسة فيما يتوصل به إلى الحكم فهو أمر مجمع على جوازه بل وضرورته كالتفريق عند سماع شهادة الشهود ومحاولة استخراج الحق من كلامهم .
يقول صاحب الطرق الحكمية :"ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والإمارات فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقرار وقد صرح الفقهاء كلهم بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم كيف تحملوا الشهادة وأين تحملوها وذلك واجب عليه متى عدل عنه أَثِمَ وجار فى الحكم ..."
وعليه فاستخدام الفراسة فى القضاء والحكم أمر يحتاج إلى ضبط ومراعاة فلا يمنع على عمومه ولا يقبل أيضا على عمومه ،والقاضى أحذق من أن ينبه إلى مثل هذه الأمور.
المبحث الثالث
الفراسة فى القرآن
ذكرنا سابقا أن القران الكريم حوى كل علم نافع إن لم يكن تفصيلا فإجمالا حتى لا يخرج عن هدفه الأصلي ، ومرماه الأساسى ، وهو هداية الناس إلى طريق الحق .
هذا هو الأساس ولكن فى سبيل هذا قد يتناول العديد من العلوم على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل الإشارة تارة وعلى سبيل الاستدلال تارة وتارة على سبيل الحكاية .
والفراسة كغيرها من العلوم لها أصل فى القران الكريم وقد سقنا الآيات القرآنية التى استدل بها العلماء على تأصيل علم الفراسة كقوله :"إن فى ذلك لآيات للمتوسمين " وقوله "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم ولتعرفنهم فى لحن القول "
وفى هذا المبحث ليس المقصود سوق الأدلة على وجود الفراسة ، ولكن إبراز ما أورده القران الكريم من نماذج فى الفراسة وعمدة القول فى هذا : قول ابن مسعود الذى رواه سفيان الثورى عن أبى إسحاق عن أبى عبيدة عن ابن مسعود : "أفرس الناس ثلاثة :العزيز فى يوسف حين قال لامرأته:أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ،وابنة شعيب حين قالت فى موسى :يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين ،وأبو بكر فى عمر رضى الله عنهما حين استخلفه على المسلمين "
فهذا الأثر عن ابن مسعود يوضح ويضع أيدينا على بعض المواطن التى حكى فيها القران الكريم نماذج للفراسة .
وهى مواطن عديدة حواها القران الكريم يرشدنا الأثر الذى أوردناه إلى موضعين ونسير بعده على نفس الدرب فنورد بعض النماذج الأخرى وإن لم يشر إليها هذا الأثر .
وهاك البيان :
الموطن الأول :
قال تعالى :" وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا......"
لما كاد إخوة يوسف به ، وكان منهم ما حكاه عنهم القران الكريم ، كان من قدر الله تعالى بيوسف الذى تَحُفهُ رعاية الله أن يلتقطه بعض السيارة ، وهى القوافل التى تمر وتسير فى الصحراء للتجارة أو غيرها ، فيتزودون من كل بئر يمرون عليه بالماء ، وعندما أدلى أحدهم بدلوه تعلق به يوسف وكان صغيرا لما يثقل باللحم بعد ،قال يا بشرى هذا غلام .
وعرضوه للبيع وكانوا فيه من الزاهدين أى لم يطلبوا فيه ثمنا غاليا وذلك لأنهم رأوا من يوسف النجابة والنضارة والجمال فتفرسوا فيه أن يكون من العائلات المالكة فى ذلك الوقت ، وطالما بهذا الجمال فلن يكف أهله عن البحث عنه ولا يبعد أن يكون أهله من عِلية القوم فلو مكث فى أيديهم فتره طويلة فلربما تعرف عليه أهله فيأخذوه منهم وربما أضروهم فليست هيئته هيئة العبيد الذين يفرون من أسيادهم .
ولذا أرادوا أن يستفيدوا بسببه ولو بأقل القليل ولذا باعوه لأول مشتر عرض فيه هذا الثمن البخس ،فهو أحسن من لا شيئ .
انتقل يوسف إلى بيئة جديدة ومستقر جديد وكان من قدر الله أن الذى اشتراه من مصر لم يكن رجلا عاديا بل كان من علية القوم وهذا ما كشفته لنا النسوة كما حكاه عنهن القرآن الكريم : " وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ......"
كان هذا العزيز لا يولد له ولد وعندما شاهد يوسف ذلك الولد النجيب أعجبه وتفرس فيه ما حكاه عنه القران الكريم :"وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا "وياليت امرأة العزيز استجابت لما قاله زوجها فبدلا من إكرامه نراها قد كادت له وأرادت أن توقعه فى براثنها لولا قدر الله ولطفه بعباده وأوليائه .
ذكر الإمام البيضاوى فى تفسيره أن اسم العزيز الذى اشترى يوسف هو قطفير أو إطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقى ، وقد آمن بيوسف عليه السلام ومات فى حياته ....
والمشهور أن العزيز اشتراه وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث فى منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة .
وكانت امرأة العزيز راعيل أو زليخا ، أمرها أن تتعهده وأن تجعل مقامه عندها كريما من أجل أن يستظهر به فى مصالحهما وكان عقيما ....وتفرس فيه الرشد "
ويعلل الإمام الشوكانى زهدهم فيه بقوله :"باعوه بذلك الثمن البخس وذلك لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به ...."
وذهب إلى أن العزيز اسمه الريان بن الوليد من العمالقة وقيل إن الملك هو فرعون موسى ، ثم يقول :"كان العزيز حصورا لا يولد له ،وقيل كان لا يأتى النساء ،وقد كان تفرس فيه أن ينوب عنه فيما يسند إليه من أمر المملكة
وذهب الإمام الألوسى إلى أن يوسف قد بيع مرتين مرة بيع من إخوته للسيارة ومرة أخرى بيع لعزيز مصر يقول "وقال الذى اشتراه من مصر فهذا الشراء غير الشراء الأول السابق الذى كان بثمن بخس وزعم اتحادهما ضعيف جدا وإلا لا يبقى لقوله "من مصر"كثير جدوى
واختلف فى كونه- العزيز –ساعة اشترى يوسف عليه السلام كان كافرا أم مؤمنا ، فذهب الألوسى الى أنه كان كافرا واستدل على ذلك بوجود صنم فى بيته حسبما يذكر فى بعض الروايات أن زليخا عندما أرادته لنفسها قامت وسترت وجه هذا الصنم .
بينما ذهب مجاهد إلى أنه كان مؤمنا ويعلق الألوسى على رأى مجاهد بقوله "ولعل مراده أنه آمن بعد ذلك وإلا فكونه مؤمنا ساعة الاشتراء مما لا يكاد يسلم "
ثم يختم حديثه عن القصة بقوله "وكان هذا القول من العزيز لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة "
ويقول الزمخشرى :"عسى أن ينفعنا :لعله إذا تدرب وراض الأمور وفهم مجاريها نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله فينفعنا فيه بكفايته وأمانته ،أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ،وكان قطفير عقيما لا يولد له ،وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك "
أما الإمام ابن عاشور فيطالعنا فى هذا الموضع بقوله :" المعنى إجعلى إقامته عندك كريمة أى كاملة فى نوعها ،أراد أن يجعل الإحسان إليه سببا فى اجتلاب محبته إياها ونصحه لهما فينفعهما أو يتخذانه ولدا فيبر بهما وذلك أشد تقريبا ، ولعله كان آيسا من ولادة زوجه وإنما قال ذلك لحسن تفرسه فى ملامح يوسف عليه السلام المؤذنة بالكمال وكيف لا يكون رجلا ذا فراسة وقد جعله الملك شرطته فقد كان الملوك أهل حذر فلا يولون أمورهم غير الأكفاء .........
وهكذا حكى لنا القران الكريم هذا النموذج من نماذج الفراسة فى القران الكريم ، ونص جمهور المفسرين من خلال هذا الموطن على تحقق الفراسة فيه .
الموطن الثانى:
" قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ "
خرج موسى عليه السلام من مصر خائفا يترقب بعد أن وكز الرجل المصرى فقتله وقال ما حكاه عنه القران الكريم "فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين "
بعدها توجه موسى بقدَر الله إلى "مدين " وهى بأطراف الجزيرة العربية ، وعندما وصل إليها وجد جماعة من الناس يسقون ماشيتهم وأنعامهم ، وكان زحاما وعندما أرسل نظره هنا وهناك وجد على جانب من هذا الزحام امرأتين تزودان ، يعنى تمنعان أنعامهما عن الماء فلما رأى منهما هذا الفعل سألهما ما خطبكما ؟
فأجابتا إجابة مختصرة ومفيدة لا تطمع فيهما أحدا من غير خضوع فى القول قالتا: لا نسقى حتى يصدر الرعاء" فهى إجابة تنم عن حسن تربية وأرادتا أن تقطع سبيل الكلام مع موسى حتى لا يماطل فى الكلام معهما فقالتا : وأبونا شيخ كبير.
ولما علم موسى منهما حسن أخلاقهما وتحريهما الأخلاق الحسنة قابل كلامهما بمعروف فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال متأدبا فى الطلب من الله تعالى :"رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير "
وتسير القصة فى مسارها الذى قدره الله ، وما هى إلا فترة وجيزة حتى جاءته إحداهما ، تتجمل بالحياء إما فى مشيتها إذا قرأنا "تمشى على استحياء "وأما فى كلامها معه إذا قرأنا "على استحياء قالت …."ولا يبعد أن يكون الحياء منها فى المشى والكلام معا فهى بنت شعيب .
قالت له أن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ، فتوسم موسى خيرا وعلم أن الله قد استجاب دعوته فلما حضر أمام شعيب وقص موسى قصته على شعيب قوى من أزره وعضد من عزيمته وقال له "لا تخف نجوت من القوم الظالمين "
وهنا تفرست بنت شعيب فراستان :
الأولى : فى والدها من خلال كلامه مع موسى ، فتفرست أن أباها راض عن هذا الشاب وعن أفعاله ، فاقتنصت الفرصة وقالت ما حكاه القران الكريم عنها "يا أبت استأجره "كناية عن عرضها الزواج منه بعفة المرأة الحرة الأبية ، إن خير من استأجرت القوى الأمين .
وكانت هذه هى الفراسة الثانية فتفرست فى موسى القوة والأمانة ، وعندما سألها والدها شعيب عن تفرسها ؟
قالت :أما القوة فلأنه بعد انصراف الناس عن البئر قام ورفع حجره وهو ضخم ولا يستطيع رفعه إلا النفر الأقوياء .
وأما أمانته :فلأنه عندما أخبرته إن أبى يريدك لم يتبعنى فى السير بل عرض على أن أسير أنا خلفه ويسير هو أمامى فإن ضل الطريق فما عليها إلا أن تقذف بحصيات نحو الطريق الصحيح حتى وصل الى البيت
فأى أمانة أفضل من هذه الأمانة فهو أمين على الأعراض ، فهنا تفرست بنت شعيب فى موسى القوة والأمانة لما رأت من أفعاله ما يرجح عندها هذه الفراسة ، فاستدلت بما ظهر على ما خفى وهذا هو عين الفراسة .
أورد شيخ المفسرين ابن جرير الطبرى فى تفسيره روايات عديدة توضح لنا جوانب من هذه القصة فيقول :"حدثنا موسى قال :حدثنا عمرو قال :حدثنا أسباط عن السدى قال :ذهب القبطى يعنى الذى كان يقاتل الإسرائيلى فأفشى عليه أن موسى هو الذى قتل الرجل فطلبه فرعون ،وقال :خذوه إنه صاحبنا ،وقال للذين يطلبونه اطلبوه فى بنيان الطريق فإن موسى غلام لا يهتدى الطريق فأخذ موسى فى بنيان الطريق وقد جاءه الرجل فأخبره :"إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك "
ويعرض لنا ابن كثير جانبا آخر فيقول "لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته فى أمره خرج من مصر وحده ولم يألف ذلك قبله ، بل كان فى رفاهية ونعمة ورياسة "فخرج منها خائفا يترقب "أى يلتفت "قال رب نجنى من القوم الظالمين "أى من فرعون وملئه فذكروا أن الله تعالى بعث إليه ملكا على فرس فأرشده إلى الطريق والله أعلم .
ولما توجه تلقاء مدين :أى أخذ طريقا سالكا مهيئا فرح بذلك "قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل "أى الطريق الأقوم ففعل الله به ذلك وهداه إلى الصراط المستقيم فى الدنيا والآخرة فجعله هاديا مهديا ...."
ولعلنا أدركنا فطنة ابن كثير وتحريه الدقة فى النقل فهو لا يسوق النصوص هكذا على عوانها كحاطب ليل ، ولكن يعقب عليها بما يجلو صورتها فنراه يعقب باختصار على نزول الملك على موسى فى طريقه بقوله :" فذكروا أن الله سبحانه بعث إليه ملكا على فرس فى طريقه فالله أعلم "
فهو لم يعطها صفة الثبات والجزم بل جعلها مما لا يرفض ولا يقبل ولا حرج على فضل الله ، وبالطبع فإن هذه القرية التى قصدها موسى عليه السلام لم تكن تحت سلطان فرعون ولهذا خرج إليها موسى وهذا ما قرره الإمام الزجاج وحكاه عنه الإمام الشوكانى .
ولما ورد ماء مدين " لفظ الورود قد يطلق على الدخول فى المورد وقد يطلق على البلوغ إليه وان لم يدخل فيه وهو المراد هنا .
ومنه قول زهير :
فلما وردنا الماء رزقا حمامه
وقيل مدين اسم للقبيلة وهى غير منصرفة ، وتزودان :أى تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس ويخلو بينهما وبين الماء .
ومعنى الذود المنع والحبس ، ومنه قول الشاعر :
أبيت على باب القوافى كأنما أذود بها سربا من الوحش نزعا
اى أحبس وأمنع .
قال لهما موسى :"ما خطبكما "والخطب هو الشأن ،قيل وإنما يقال ما خطبك لمصاب أو مضطهد أو لمن يأتى بمنكر .......
وأما عن لقاء موسى ببنت شعيب عندما جاءته تستدعيه لأبيها فيطالعنا ابن القيم ببراعته فى تتبعه للمعانى وما تكنه الألفاظ من إشارات لطيفة فيقول :"المعنى : فلما شربت غنمهما رجعتا إلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى فبعث إحداهما تدعو موسى ........فجاءته إحداهما تمشى على استحياء قد سترت وجهها بكم درعها وفى استحيائها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كان من صفتها الحياء فهى تمشى مشى من لم يعتد الخروج والدخول .
الثانى :أنها دعته لتكافئه ،وكان الأجمل عندها أن تدعوه لغير ذلك .
الثالث :لأنها رسول أبيها .
"ليجزيك أجر ما سقيت لنا "
قال المفسرون : لما سمع موسى هذا الكلام كرهها وأراد أن لا يتبعها فلم يجد بدا للجهد الذى به من اتباعها فتتبعها فكانت الريح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها فناداها : يا أمة الله كونى خلفى ودلينى الطريق "فلما جاءه "أى موسى شعيبا وقص عليه القصص اى أخبره بأمره ،قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين .
أى لا سلطان لفرعون بأرضنا ولسنا فى مملكته ،قالت إحداهما وهى الكبرى :يا أبت استأجره اى اتخذه أجيرا أن خير من استأجرت القوى الأمين :أى خير من استعملت على عملك من قوى على عملك ،وأدى الأمانة ،وإنما سمته قويا لرفعه الحجر على رأس البئر ،وقيل لأنه استقى بدلو لا يقلها إلا العدد الكثير من الرجال . وسمته أمينا لأنه أمرها أن تمشى خلفه ........
ولا شك كان هذا تفرسا من بنت شعيب من خلال ما ظهر لها من سلوك موسى عليه السلام .
الموطن الثالث :
"وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"
هذا هو الموطن الثالث والذى أجرى الله فيه الفراسة على لسان هذه المرأة الصالحة التى عاشت فى بيئة كافرة ، فلم تؤثر هذه البيئة الفاسدة على علاقتها مع ربها وجعلها الله مثلا يحتذى به فقال "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"
وأمام هذه القصة –سواء قصة امرأة فرعون أو قصة موسى مع فرعون – يقف العقل البشرى مشدوها أمام قدرة الله وحكمة أفعاله ولا يملك الإنسان عندها إلا أن يقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
فموسى عليه السلام والذى تربى فى بيت فرعون صار نبيا من أنبياء الله ، وموسى الذى رباه جبريل عليه السلام كما بعض الروايات صار مروجا للفتنة وصادا عن سبيل الله فسبحان من بيده مقاليد الأمور .
يفسد فرعون مصر فى البلاد ويستضعف الناس وكان من قدر الله أن يرى رؤيا تفزعه ، وفسرها له المنجمون بضياع ملكه على يد طفل سيولد ويتولى الأمر كله ويفسده عليك .
وعلى الفور – ولأنه المُلك والسلطان الذى تطيش من أجله العقول والألباب ومن أجله أو من أجل الحفاظ عليه يفعل الناس الكثير والكثير- أصدر فرعون مصر قرارا بأن يقتل كل ولد ذكر وأرسل فى المدائن القابلات والعسس لتنفيذ الأمر وبالفعل أعملوا السيف فى كل من يولد ذكرا .
وبعد فترة أدرك فرعون ومن معه خطورة الأمر فالقضاء على جميع الذكور معناه أنهم سيفقدون خدمهم وسيضطرون هم لخدمة أنفسهم فأشاروا عليه أن يكون القتل عاما بعد عام .
وكان من قدر الله أن يولد هارون فى عام العفو ، ويولد موسى فى العام الواجب فيه القتل .
خافت أم موسى على وليدها فأوحى الله إليها أن اصنعى تابوتا وضعى فيه موسى حتى تخفيه من أعين جند فرعون " وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ "
وكان من قدر الله أيضا أن تلقى أم موسى وليدها فى اليم دون أن تربطه حتى ينفذ قدر الله ومراده فيسير التابوت فى الماء حتى يصل إلى بيت فرعون فتلتقطه ماشطة فرعون وتأخذه وتعرضه على السيدة"آسيا" امرأة فرعون وعلى الفور وقعت محبة موسى فى قلب آسيا كيف لا والله يقول : " وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي"
تفرس فرعون أن هذا الولد ليس قبطيا وذلك للون البشرة وملامحه وأنه من بلد قريب ولم يأت من مكان بعيد ، علم ذلك وتفرسه من خلال دراسته لحال التابوت الذى وجد فيه موسى .
عزم فرعون على قتل موسى لكن قيض الله لموسى من يدفع ويذب عنه حتى ينفُذَ قدر الله ، على الفور قالت السيدة آسيا وهى من أحبت هذا الطفل النجيب : "لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا "وأقنعت الزوجة زوجها حتى عدل عن فكرة القتل لموسى لكن القدر أخفى لفرعون ما لاطاقة له به .
وهنا تفرست امرأة فرعون فى موسى لما رأت من إمارات النجابة والذكاء أنه ينفعها فقالت :
"قرة عين لى ولك " فأجابها فرعون أما لك فنعم وأما لى فلا . فكان كذلك فصار موسى لامرأة فرعون منجاة لها من النيران وصار لفرعون عدوا وحزنا وأغرق الله فرعون على يد موسى عليه السلام فسبحان من إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون .
وهكذا أشرنا إلى هذه القصة بطريقة إجمالية وكيف أن السيدة آسيا امرأة فرعون تفرست فى موسى أنه ينفعها ويمكن أن ندرج هذا النوع من الفراسة تحت أى من الأنواع التى ذكرناها آنفا .
فيجوز أن تكون عبر الأسباب التى استخدمتها آسيا .
ويجوز أن تكون من النوع الذى يصبه الله فى قلوب من أراد من عباده دون مباشرة أى أسباب ، وكلا الاحتمالين لا يستبعد .
إلا أنى أرجح الاحتمال الثانى كرامة لهذه المرأة والتى خلد الله ذكرها فى القران الكريم , وكذا سنة النبى حيث يقول :"كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنت عمران واسيا امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على باقى الطعام ........."
يقول الإمام الألوسى عند معالجته لهذه الآيات الكريمة "ويروى أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بنى إسرائيل فعالجتها فلما وقع موسى عليه السلام على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها بحيث منعها من السعاية ، فقالت لأمه احفظيه، فلما خرجت جاءت عيون فرعون فلفته فى خرقة وألقته فى تنور مسجور ، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها فطلبوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا وهى لا تدرى مكانه فسمعت بكاؤه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما ...."
ويذكر الإمام القرطبى رحمه الله أن السيدة آسية فور أن شاهدت جمال موسى فى التابوت قالت : قرة عين لى ولك فأجابها فرعون لك فقط أما لى فلا وهنا يورد القرطبى حديث عن النبى :"لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له"
ويقول الإمام أبو السعود : "روى أنه ذبح فى طلبه عليه الصلاة والسلام تسعون ألف وليد وكانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربى عدوهم على أيديهم "
وخاطبته أى فرعون بصيغة الجمع "لا تقتلوه "تعظيما ليساعدها فيما تريده وهذه من حيل النساء "
ويقول الإمام السيوطى فى درره المنثورة "ألقيت عليها رحمته حين أبصرته وهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه وفى زمانه
وهكذا يتناول المفسرون القصة كل بطرف وكل يدلو فيها بدلوه والخلاصة التى نود أن نوضحها هى أن السيدة آسية امرأة فرعون تفرست فى موسى وحسن تفرسها
أما عن نوع الفراسة فى هذه القصة هل هى ما يصبها الله فى القلب أم ما يتوصل إليها بالأمارات والأسباب .
الأرجح : أنها من النوع الأول وإلا لاشتهر عنها التفرس ولو اشتهرت به لنقل تواترا فهذا مما لا يخفى وحيث لم ينقل فهى لم تشتهر بالتفرس إلا ما أجراه الله عليها عندما شاهدت جمال موسى وكان موسى قد أعطاه الله من الجمال حظا وافيا ،فضلا عن المحبة التى اختصه الله به "وألقيت عليك محبة منى "
الموطن الرابع
" وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين *ٌقَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ *
هل يتفرس الإنسان من نفسه شيئا ؟
فى الواقع أنه لا مانع أبدا من أن يتفرس الإنسان من نفسه فإِن أَبْصَرَ الناس بالنفس هو صاحب النفس ذاته ،فإنه يعلم من نفسه ما لا يعلمه غيره ، بل ويكشف لنفسه ما يستحى أن يكشفه أمام غيره ،هذا إذا اعتبرنا أنه يمارس مع نفسه الفراسة الرياضية التى تمارس الأسباب والدراسة أما الفراسة الإيمانية فالكل فيها سواء .
المهم أن سيدنا يوسف عليه السلام تفرس فى نفسه القدرة على إدارة الأمور الخاصة بالخزانة آنذاك أو على حد تعبير القران الكريم "خزائن الأرض "فإنه لما كاد إخوة يوسف ليوسف ، وقدر الله له النجاة واشتراه عزيز مصر وقربه منه منزلا فلم يلبث حتى مكرت به امرأة العزيز وأرادت أن توقعه فى شراكها فنجاه الله من مكرها وكذلك ينجى الله المؤمنين .
ودخل يوسف السجن واشتهر فيه بتعبير الرؤى حتى وصى صاحبه فى السجن أن يذكره عند ربه "أمام الملك" فكان ذلك بعد فترة .
عندما رأى الملك رؤية اعتقد أنها تهدد مستقبل البلاد وبحث عن معبر للرؤى فتذكر صاحب يوسف أيام كان فى السجن ، ودل الملك على يوسف ولما ذهب هذا الرجل ليوسف فى السجن وقص عليه رؤيا الملك ، على الفور أجاب يوسف ولم يتدلل فهو لم يبخل بالبيان على من طلبه وهذه حنكة الدعوة .
ورجع هذا الرجل للملك وأخبره بتأويل يوسف وهو ما حكاه القران الكريم " يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ "
وعلى الفور استدعاه الملك فلما كلمه الملك عرض يوسف على الملك أن يتقلد مفاتيح الأمر فى الخزائن لما تفرس من نفسه القدرة على هذا العمل وهذا لا يتعارض مع التعاليم الصحيحة من أن الإنسان لا ينبغى أن يطلب الإمارة لنفسه وإلا وكل إليها على حد تعبير النبى لأن الإنسان إذا وجد فى نفسه القدرة على ما لا يستطيعه غيره ، فلا حرج أبدا أن يعرض نفسه لهذا لعمل ويوسف عليه السلام تفرس فى نفسه القدرة على هذا العمل .
يقول الإمام الشوكانى :"فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب والعجاف بسبع سنين فيها جدب وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر والسبع اليابسات "
ويقول شيخ المفسرين فى قوله تعالى "ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون "هذا خبر من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن فى رؤيا ملكهم ولكنه من علم الغيب الذى آتاه الله دلالة على نبوته وحجة على صدقة ........
أما عن استدعائه من السجن ومثوله بين يدى الملك وما جرى بينهما من حوار فيصوره لنا الإمام البغوى تصويرا دقيقا فيقول :
" روى أنه قام ودعا لأهل السجن ،فقال :اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار فى كل بلد ، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن : هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء ،ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك "
ويستمر الإمام البغوى فى تناوله للأحداث إلى أن يصل إلى لقاء الملك بيوسف فيعرضه قائلا :"روى أن الملك قال له أحب أن أسمع رؤياى منك شفاها.
فقال يوسف :نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان كشف النيل لك عنهن فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا ، فبينما أنت تنظر إليهم ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه فخرج من حماته سبع بقرات عجاف شعث غبر متقلصات البطون ليس لهن دروع ولا أخلاف ، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع ، فافترسن السمان فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن وتمششن مخهن فبينما أنت تنظر وتعجب ،إذ سبع سنابل خضر وسبع أخر سود فى منبت واحد عروقهن فى الثرى والماء فبينما أنت تقول فى نفسك أنى هذا خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن فى الماء؟
إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار فاحترقن فصرن سودا فهذا ما رأيت ثم انتبهت من نومك مذعورا ....
فقال الملك :والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجيبة بأعجب مما سمعت منك فما ترى فى رؤياى أيها الصديق ؟
فقال يوسف عليه السلام: "أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا فى هذه السنين المخصبة وتجعل الطعام فى الخزائن بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل علفا للدواب ، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذى جمعته لأهل مصر ومن حولها ويأتيك الخلق من النواحى للميرة فيجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك ، قال الملك :ومن لى بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفينى الشغل فيه ؟
فقال يوسف : اجعلنى على خزائن الأرض ....
وقد تكلم ابن عاشور فى هذه الواقعة فأجاد وأفاد وأورد كلاما وأحكاما لا غنى لمسلم عنها عند مدارسة هذه الآية رأيت أن أنقله بتمامه لما فيه من عظيم الفائدة : " وجملة " قال اجعلني على خزائن الأرض "حكاية جواب والكلام للملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات و " على " هنا للاستعلاء المجازي وهو التصرف والتمكن أي اجعلني متصرفا في خزائن الأرض ، و " خزائن " جمع خزانة " بكسر الخاء " أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال .
والتعريف في" الأرض "تعريف العهد وهي الأرض المعهودة لهم أي أرض مصر ، والمراد من " خزائن الأرض " خزائن كانت موجودة وهي خزائن الأموال ؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعدادا للسنوات المعبر عنها بقوله مما تحصنون" "
واقتراح يوسف " عليه السلام " ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعمل في المصالح، ولذلك لم يسأل ملكا لنفسه ولا عرضا من متاع الدنيا ولكن سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالها صلى الله عليه وسلم وعلل طلبه ذلك بقوله " إني حفيظ عليم " المفيد تعليل ما قبلها لوقوع " إن " في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما .
وهما : الحفظ لما يليه والعلم بتدبير ما يتولاه ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما وذلك صفة الحفظ المحقق للائتمان وصفة العلم المحقق للمكانة وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه . وهذا من قبيل الحسبة.
وشبه ابن عطية مقام ابى بكر رضى الله عنه بمقام يوسف عليه السلام فى دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين . قلت : وهو تشبيه رشيق إذ كلاهما صديق ، وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره
لأن ذلك من النصح للأمة وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعته على مصلحة الأمة ، وقد علم يوسف " عليه السلام " أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر.
فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب " عليهم السلام " فلا يعارض هذا ما جاء في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " . لأن عبد الرحمن بن سمرة لم يكن منفردا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحا على جميعهم
وبهذه الآية استدل الفقهاء على جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يول ضاعت الحقوق .
قال المازري : " يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق أو وليه من لا يحل أن يولى ، وكذلك إن كان وليه من لا تحل توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله "
وقال ابن مرزوق : لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري ، وقال عياض في كتاب الإمارة أي من شرح صحيح مسلم ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة ........."
ويعلق الإمام البيضاوى على كلام يوسف :"اجعلنى على خزائن الأرض "بقوله "وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لها ، والتولى من يد الكافر إذا علم أنه لا سبيل لإقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به وعن مجاهد أن الملك أسلم على يديه ........."
ويقول الإمام النسفى : "وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء للعباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه فى ذلك ، فطلبه ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا ......."
هكذا أفاض العلماء والمفسرون فى إيضاح قصة يوسف عليه السلام وطلبه من الملك أن يتقلد خزائن الأرض فى زمانه .
وقبل أن نترك الحديث عن الفراسة فى القران الكريم نود أن نشير للقارئ الكريم أن هناك مواضع أخرى ذكرت فيها الفراسة نكتفى بما ذكرناه تفصيلا ونورد بعضها إجمالا فيما يلى :
الموضع الأول :
ما كان على يد هارون عليه السلام عندما استخلفه موسى على قومه لما ذهب لميقات ربه وكان هذا كله عقيب أن نجى الله موسى وقومه من فرعون وملئه فى هذه الفترة خرج لهم موسى السامرى صاحب الفتنة العظيمة وجمع منهم حليهم وشكله على هيئة عجل ، ثم نثر عليه من تراب فرس جبريل الذى احتفظ به فأحدث صوتا كخوار العجل ، وهنا تفرس هارون أنهم افتتنوا بهذا الصنيع ، وكان كلامه وتصرفه معهم على أساس هذا التفرس ، فعلى الفور وقبل أن يصدر منهم قول أو فعل ، قال ما حكاه عنه القران الكريم :" يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي "
فهذه فراسة من هارون عليه السلام ،تفرس من قوم موسى أنهم افتتنوا بفعل السامرى لهم وهذا منه قبل أن يأتوا بصورة من صور الافتتان ، وحتى قبل أن يقول لهم السامرى "هذا إلهكم وإله موسى "
وهذا ما حكاه الإمام الألوسى فى تفسيره :"وقيل :من قبل قول السامرى هذا إلهكم وإله موسى ،كأنه عليه السلام أول ما أبصره حين طلع من الحفيرة تفرس فيهم الافتتان فسارع إلى تحذيرهم .........
الموضع الثانى :
ما جاء على لسان الملائكة الذين جاءوا لسيدنا إبراهيم عليه السلام ،واستقبلهم إبراهيم بالكرم ، وهو أبو الضيفان كما يسمى ، جاءهم بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس فى نفسه خيفة وداخله الريب والشك من أمرهم .
وعلى الفور تفرس الملائكة هذه الحالة من إبراهيم فأجابوه بما يهدئ من روعه ويشفى غليله فقالوا :" قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ "
هنا هدأ روع سيدنا إبر هيم وتجاوب معهم وزالت منه حالة الخوف والريب ، وكان له منهم بشرى جليلة طالما طلبها إبراهيم وانتظرها من ربه وهى البشارة بالولد عند بلوغه إلى سن متقدمة لكنه عطاء الله ولا حرج على فضل الله " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا "
ويوضح الإمام الألوسى أن الملائكة إنما أجابت بهذه الإجابة السريعة والتى تهدأ من روع إبراهيم عليه السلام وذلك حين رأوا أثر الخوف وتفرسوا ذلك منه .......
والشوكانى أيضا يؤكد هذا الكلام بقوله فى تفسيره :"قالوا لا تخف "
قالوا له هذه المقالة مع أنه لم يتكلم بما يدل على الخوف بل أوجس ذلك فى نفسه فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه ،أو قالوه له بعد ما قال عقب ما أوجس فى نفسه من الخيفة قولا يدل على الخوف كما فى قوله فى سورة الحجرات "قال إنا منكم وجلون "
وكذا علل الزمخشرى قولهم بقوله "وإنما قالوا لا تخف لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير فى وجهه..."
وهكذا تفهم الفراسة هنا استنباطا من فعل الملائكة ولا نريد أن نتوسع فى هذا المجال من استنباط حالات الفراسة فى القران الكريم قولا وفعلا لأن هذا أمر من الصعوبة بمكان وقد يقتضى التكلف ويتهم فى النهاية بالخروج عن صلب الموضوع ونحن لا يهمنا استقراء جميع المواطن تفصيلا بقدر ما يهمنا الإشارة إلى بعض النماذج التى نثبت من خلالها أن القران الكريم لم يتجاهل موضوع الفراسة بل حكاها على لسان قائليها بأمانة ودقة .
الموضع الثالث :
فى هذا الموطن نؤكد أن نوعا من الفراسة غير خاص بالصالحين حيث يحكيها لنا القران الكريم فى هذه المرة على لسان من لا علاقة له بالتقوى وهذا لم يمنعهم من ممارسة الفراسة ،ليثبتوا لنا أن الفراسة منها ما يتوصل إليه بالأسباب .
لما دخل سيدنا يوسف السجن يروى لنا القرآن أنه دخل معه السجن فتيان هذان الفتيان تفرسا فى يوسف الصلاح لما ظهرت عليه من أماراته فهم وإن لم يمارسا الصلاح لكن عندهما قيمه ومعياره .
وهذا أمر له دلالته هو أن الذى يأتى بالمعصية قد يكون لديه معيار للصلاح لكنه حُرم ممارسته لذا نجد العاصى تصيبه حالة من الندم والخزى فور إتيانه بالمعصية
صاحبا يوسف رأيا فى منامهما رؤيا أزعجتهما :
الأول : رأى وكأنه يعصر خمرا ، والثانى: رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه.
ومن خلال معاشرتهما ليوسف فى السجن ولما رأوا منه من كريم الخصال والسجايا قالا ما حكاه القرآن الكريم عنهما "نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين " .
يقول ابن عاشور فى تفسيره القيم "وهذان الفتيان هما ساقي الملك، وخبازه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما . قيل : اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام.
وهذان الفتيان توسما من يوسف عليه السلام كمال العقل والفهم فظنا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علما منه ذلك من قبل وقد صادفا الصواب ولذلك قالا " إنا نراك من المحسنين " أى المحسنين التعبير أو المحسنين الفهم والإحسان : الإتقان ، يقال : هو لا يحسن القراءة أي لا يتقنها . ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل ، وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر " أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون "
ولعلك لاحظت ما عبر به ابن عاشور من أنهما توسما فى يوسف الصلاح ومن ثم القدرة على تعبير الأحلام .
أما الإمام الألوسى فيقول فى هذا المقام :" أنهما لما رأيا يوسف هان عليهما أمر السجن لما وقع في قلوبهما من محبته "وهوى كل نفس حيث حبيبها" ، أخرج غير واحد عن ابن إسحق أنهما لما رأياه قالا له : يا فتى لقد والله أحببناك حين رأيناك فقال لهما عليه السلام : أنشدكما الله تعالى أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل على من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ثم أحبني أبي فدخل علي من حبه بلاء ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء فلا تحباني بارك الله تعالى فيكما فأبيا إلا حبه