[right] المختصر في
فقه الحقوق الزوجية
بقلم
فهـد عبـد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فإن العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة سنة إلهيه، وغريزة أودعها الله في الجنسين- الذكر والأنثى-اللذين يشكلان الركيزتين الأساسيتين لهذه العلاقة، ولهذا لم يترك الشارع الحكيم هذه العلاقة دون توجيه وبيان لما يجب على كل طرف نحو الآخر، وما تمليه ضرورة هذا الاقتران من حقوق بحيث تستمر هذه العلاقة وتقاوم الصعاب الدنيوية، ولا تتكسر أمام موجات الحياة الصغيرة.
كما أن الشارع أراد بذكر الحقوق والواجبات على كلا الطرفين تجاه صاحبه كيلا تنحرف الأسرة عن المسار الصحيح، والذي بانحرافها ينحرف المجتمع برمته، فالأسرة هي النواة للمجتمع، وهي التي تشكل سداه ولحمته وبصلاح الأسره يصلح المجتمع، وبفسادها يفسد.
وللمركز الهام الذي تحتله العلاقة الزوجية بيّن الشارع الحكيم في كتابه الكريم وسنة نبيه جملة من الواجبات والحقوق التي يجب على الزوجين تطبيقها طاعة لله سبحانه أولاً، وحفاضاً على كيان الأسرة ثانياً، وعلى هدوء واستقرار وسلامة المجتمع ثالثاً.
إن هذه الحقوق التي بينها الشارع الحكيم- والتي سآتي على ذكرها في الفصول القادمة- تمثل سياجاً آمناً يحفظ للأسرة سلامتها وطمأنينتها، كيف لا؟! وهي آتية من اللطيف الخبيرأَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك:14). لا يستطيع أحد أن ينكر أن العلاقة الزوجية نعمة أنعمها الله على الإنسان، وميزه بها عن غيره من المخلوقات ذات الزوجية الذكرية والأنثوية، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والواجبات، فالمسألة ليست تسافداً كتسافد الكلاب، بل هي علاقة تنبني على التفاهم والوفاء، فلا يصح للإنسان أن يصرفها كيف يشاء بعيداً عن توجيه رازقها ومعطيها المولى سبحانه، إذ إن مقتضى الربوبية ينقض هذا من أساسه والواجب على المسلم أن يقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(البقرة: من الآية285)ومن هنا تكمن أهمية معرفة الحقوق والواجبات في العلاقات الزوجية.
ومما ذكر القرآن بياناً للحقوق والواجبات بين الزوجين قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة: من الآية228) وهذه قاعدة عظيمة في بيان طبيعة الواجبات والحقوق بين الزوجين، ومنه قوله تعالى:الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (النساء: من الآية34).
كما بين القرآن النهي عن الإضرار بالنساء أو البغي عليهن كما في قوله تعالى:وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ(الطلاق: من الآية6) وقوله سبحانه:فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً (النساء: من الآية34) وغيرها من القضايا التي سأبينها في هذا البحث إن شاء الله.
يتبين مما سبق أن العلاقة بين الزوجين توجب أداء حقوق وواجبات كما تعني عدم الإساءة إلى كلٍ منهما على الآخر، وهذا ما سأفصله في صفحات هذا الكتاب، إن شاء الله.
إن مما دفعني للكتابة في هذا الموضوع أمور:-
الأول: جهل الكثيرين من الجنسين بهذه الحقوق، والتي تعتبر جزءاً من الدين يسأل عنه المرء في أخراه، ذلك أن البعض يركز على الجوانب الخارجة عن إطار الأسرة، وينسى واجباته داخل بيته وأسرته.
الثاني: جهل الكثيرين من الجنسين بهذه الحقوق، والتي إذا لم تراع فإنها تفرز غالباً نتائج مدمرة للأسرة برمتها، وإن الكثير من المشاكل الأسرية التي نراها في مجتمعاتنا يعود السبب الكبير والوحيد غالباً إلى عدم الانتباه لقضية الحق الواجب عليه تجاه الطرف الآخر.
الثالث: أن هناك مؤسسات دولية وحكومية عندما رأت كثرة المشاكل الأسرية حاولت أن توجد حلولاً، فعملت اتفاقيات وقوانين بعضها يتوافق مع الشرع وبعضها يعارضه، وهذا ليس غريباً على بلدان لا تدين بدين الإسلام، بيد أن الغريب هو أن نجد بلداناً إسلامية تتبنى بعض هذه المشاريع دون الرجوع إلى ما ذكره الشرع الشريف متبعة في ذلك نهج (الآخر) مؤيدة ببغاوات مستوردة أكبر همها هو الطعن في الدين قبل محاولة إصلاح الأسرة.
ومع هذا لم يصلح شيء وهذا بدهي لأن:-
1.هذه التشريعات مصادمة لدين الله عز وجل.
2.ليس لهذه التشريعات مستند ترجع إليه سوى الاتفاقيات والندوات والأسماء المستوردة كلها من خارج ديارنا وثقافتنا وديننا.
3.وبما أنها ليست شرعية لم تكتسب الثقة من الناس والأمة
4.ولبعدها عن الدين لم تستطع أن تعطي الحلول الناجعة، وأن تحدد الحقوق الصائبة بل زاد تخبطها وبدلاً من أن تحافظ على كيان الأسرة وعلى استقرار المرأة راحت تعلمها العصيان فزاد الطين بلة.
من هنا رأيت أن أذكر هذه الحقوق راجعاً للقرآن والسنة وكلام علماء الأمة راجياً من الله سبحانه أن يكتب هذا العمل في ميزان حسناتي، فهو حسبي ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول: الحقوق المشتركة بين الزوجين
في هذا المبحث سنذكر جملة من الحقوق المشتركة بين الزوجين والتي لا ينبغي جهلها .
أولاً: حق الاستمتاع:-
هذا الحق مشترك بين الزوجين، بمعنى أن للزوج الحق في الاستمتاع بزوجته وكذلك العكس، ذلك لأن الاستمتاع مقصد من مقاصد النكاح، ومن خصوصياته فـ"حل استمتاع الزوج بزوجته هو اختصاص له، فلا يشركه غيره فيه، فهو اختصاص حاجز، ولهذا لا يجوز للزوجة أن تتزوج بزوج آخر ما دامت الرابطة الزوجية قائمة بينهما"( ).
وكذلك الزوجة فاستمتاعها بزوجها "هو استمتاع وحيد، لا يجوز لها فعله مع غيره عن طريق الزواج ما دامت الرابطة الزوجية قائمة( ).
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الجماع حق للزوج فقط، وأن الزوجة لا حق لها فيه وأنها إن لم تصل إليه فلا حق لها في طلب الانفصال.
والحقيقة أن هذا الرأي خلاف قول الجماهير من أهل العلم، الذين جعلوا للمراة الحق في ذلك، وقالوا بأحقية الزوجة في مقاضاة الزوج وطلب الانفصال إن أرادت.
بل ذهب بعض الفقهاء إلى أن على الزوج أن ينام مع زوجته ليلة من أربع ليال، وقال آخرون ليلة في كل طهر، وذهب مالك ومن وافقه إلى أن الزوج المبتعد عن زوجته أربعة أشهر مولي، وإلزام الزوج في الإيلاء بالفيء أو الطلاق دليل على حق الزوجة في الجماع.
كما أن القائلين بعدم الوجوب قالوا بأنهم أوكلوه إلى الغريزة، وما كان له دافع طبعي فلا حاجة لأيجابه ديناً، والحقيقة أن إرادة الإضرار من الزوج قد تجعله يفعل ذلك، بله إذا كان مستغنياً عنها بغيرها، فكيف تدفع الزوجة الضرر عنها إن لم يكن لها الحق بالمطالبة، وتحميل الزوج وزر هجره إياها.
أضف إلى ذلك أن المرأة كالرجل لها غريزة تريد إشباعها، وهي قد جبلت على ذلك.
كما أن التعبير القرآني للمتزوجات بالمحصنات يومئ ويشير إلى دلالات المعنى اللغوي التي تفيد معنى المنع والحيلولة، وهو هنا تحصن المرأة بالزواج من دواعي الشر والرذيلة.
أضف إلى ذلك انتشار المغريات المادية والمعنوية، والمثيرات الجنسية المتنوعة، وانتشار ما يسمى بالثقافة الجنسية، التي أخذت بالانتشار، كل هذا له دور كبير في التأثير على النفوس الضعيفة، ومنها قلوب وفرة من النساء.
كما أن الاختلاط أصبح هو السمة السائدة في معظم التجمعات المختلفة، وانكسر عند كثير من الجنسين وخاصة المرأة حاجز الحياء من الطرف الآخر، مما سهل وقوع الفاحشة، وهذا ما يشهد به الواقع الذي هو حجة دامغة في وجه من يرمون غيرهم بالنظرة الشهوانية .
ولهذا كان لزاماً على الزوج أن يشبع غريزة زوجته الجنسية في حدود المعقول، وفي هذا الصدد يقول البهوتي في كشاف القناع: "ولأن النكاح شرع لمصلحة الزوجين، ودفع الضرر عنهما وهو-أي الوطء- مفض إلى دفع ضرر الشهوة عن المرأة كإفضائه إلى دفعه عن الرجل، فيكون الوطء حقاً لهما جميعاً"( ).
وعلى الزوج أن يتوخى حاجتها إلى إليه "فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره، وإن رأى الرجل من نفسه عجزاً عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التى تزيد في باهه، وتقوي شهوته حتى يعفها"( ).
ويدخل في الاستمتاع كل ما يشبع الغريزة من النظرة إلى الإنزال، فيحق للزوجين الاستمتاع بالنظر كل إلى صاحبه، ولمسه لأي جزء من أجزائه ذلك أن "الجماع فوق النظر واللمس، فكان في إحلال الجماع إحلال للنظر واللمس من باب أولى"( ).
ومما يستدل به على ذلك من السنة أن عائشة زوج النبي كانت تغتسل مع رسول الله من إناء واحد( ) .
وفي أبي داود وغيره من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال:
قلت: يارسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟
قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك"( ).
يظهر من هذا أن للزوج النظر إلى كل بدن زوجته، وكذلك العكس، بما في ذلك النظر إلى الفرج ظاهراً وباطناً، ذلك لأنه محل تمتعه( ).
فالقول بكراهة النظر إلى الفرج الظاهر، وشدة الكراهة في النظر إلى باطنه فيه بعد، والأبعد منه القول بالحرمة.
استدل أصحاب هذين القولين –الحرمة والكراهة- بحديث عائشة أنها قالت: "ما رأيت عورة رسول الله قط" .
وهذا الحديث في سنده شخص يدعى ابن سابور، وهمه الخطيب في تاريخ بغداد( ) وابن عدي في الكامل( )، كما أن فيه بركة بن محمد أبو سعيد الحلبي شيخ ابن سابور، وقد ذكره ابن عدي في الضعفاء وقال:"هذا الحديث لم يروه موصولاً بهذا الإسناد غير بركة هذا، وقد روي مرسلاً( ) فتبين ضعف هذا الحديث.
واستدلوا أيضاً بحديث "النظر إلى الفرج يورث الطمس" وقد "ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وخالفه ابن الصلاح فحسن إسناده، وقال: أخطأ من ذكره في الموضوعات"( )، ولكن تساهل ابن الصلاح في التصحيح والتحسين معلوم عند أهل هذا العلم .
وممن حكم بوضعه أبو حاتم، كما روى هذا عنه ابنه في كتاب العلل. والحديث رواه ابن حبان في الضعفاء من طرق بقية عن ابن جريج، وبقية هذا مدلس سيء التدليس، ولهذا قالوا فيه: أحاديث بقية ليست نقية، فكن من أحاديثه على تقية .
قال ابن حبان وهذا يمكن أن يكون بقية سمعه من بعض شيوخه الضعفاء عن ابن جريج فدلسه، ونظراً لهذا كله كان تحسين ابن الصلاح للحديث فيه نظر كما قال الحافظ في التلخيص( ).
وحمل الرافعي الحديث على الكراهة لا يستقيم مع ضعفه إلا على قاعدة الاحتياط التي يؤخذ فيها بالحديث الضعيف وفي هذه المسألة خلاف منتشر.
أما لمس الفرج فقال السبكي:"الخلاف الذي في النظر إلى الفرج لا يجري في مسه لانتفاء العلة... وقال سأل أبو يوسف أبا حنيفة عن مس الرجل فرج زوجته، فقال: لا بأس به، وأرجوا أن يعظم أجرهما"( ).
ويمكن تعليل عظم الأجر بأنه مدعاة للشهوة المؤدية إلى تحصين الزوجين، وتكثير النسل .
وبناءً على ما سبق فليس للزوج أو الزوجة أن يمنع الآخر من النظر إلى عورته، لأنه من جملة الاستمتاع المباح أو المندوب له، وقول الزركشي :"لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى عورة زوجها إذا منعها منه بخلاف العكس" ( )وعلل تفريقه هذا بأن الزوج يملك حق التمتع بها بخلاف العكس( ) مبني على أن التمتع حق للزوج دون الزوجة، ولهذا قال الخطيب: "وهذا ظاهر"( ) .
ولقصور نظرة هذا القول توقف فيه بعض متأخري الشافعية( ) بل ذهب بعضهم إلى أن لها ذلك ولو منعها زوجها، وهذا ما اعتمده ابن حجر الهيتمي( ) خلافاً للرملي والخطيب.
وقد ذكر الإمام الجويني "أن التلذذ بالدبر بلا إيلاج جائز"( ) والتلذذ هنا يشمل النظر واللمس "لأن جملة أجزائها محل استمتاعه إلا ما حرم الله تعالى عليه من الإيلاج( ) وقد خالف الدارمي فذهب إلى حرمة النظر إليه( ) ولكن خلافه هذا غير معول عليه في المذهب الشافعي، وضعفه الهيتمي في التحفة( ) .
ويدخل في حل الاستمتاع تجرد المرأة لزوجها، وكذلك العكس، لأن هذا مما يساهم في إشباع الشبق الجنسي، وإخماد نار الشهوة، وهذا من المقاصد الأساسية للنكاح، والتجرد من المكملات لهذا المقصد .
أما حديث: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجردان تجرد العيرين"( ) قال البيهقي في الشعب عقب روايته هذا الحديث:" تفرد به مندل بن علي"( ) وهذا الكلام منه إعلال للحديث، فمندل هذا أورده الذهبي في الضعفاء، ونقل تضعيفه عن أحمد، والدارقطني .
وقال الهيثمي فيه ضعيف( )، وقال البزار: أخطأ مندل في رفعه، والصواب أنه مرسل( ) .
فتبين من هذا أن في الحديث علتين :-
الأولى: ضعف مندل .
والثانية: وهمه في رفعه، والصواب إرساله .
وممن ضعفه من المتأخرين الألباني في ضعيف ابن ماجة( )، وضعيف الجامع( ).
على أنه يمكن حمل الحديث على تسترهم جميعاً أثناء الجماع بغطاء واحد مع التجرد تحته، فيكون معنى الحديث: (إذا أراد أحدكم جماع حليلته فليتغط هو وإياها بثوب يسترهما) ويكون الخطاب هنا للرجل بالستر دونها؛ لأنه يعلوها، وإذا استتر الأعلى استتر الأسفل( ولا يتجردان -أي لا يتغطيان- فيصيران متجردين عما يسترهما) والأمر بالاستتار هنا على وجه الندب والاستحباب( ) .
ومما ذكره الفقهاء في هذا المقام، ونص عليه الهيتمي في التحفة أن الزوج لو أمر زوجته أثناء الجماع أن تتحرك وجب عليها ذلك .
وللزوج أن يتمتع بعضوه بكل جزء من أجزاء زوجته إلا أن هنا محظورين: أحدهما زماني: وهو إتيان الحائض، والآخر مكاني: وهو الإتيان في الدبر.
أولاً: إتيان الحائض:-
إتيان الحائض لا يجوز بإجماع أهل العلم لقوله تعالى: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(البقرة:222).
وسبب نزول الآية ما رواه الطبري عن قتادة حين سئل عن هذه الآية فقال:" كان أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت ولا تؤاكلهم في إناء؛ فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك، فحرم فرجها ما دامت حائضاً، وأحل ما سوى ذلك أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار محتجزة به دونك"( ).
وفي صحيح مسلم" عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا فلا نجامعهن؟!
فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما"( ).
ومن هنا يظهر أن دين الله وسط بين أمرين فقد " كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض؛ فأمر الله بالقصد بين هذين"( ).
هذا وقد اختلف العلماء فيما يجب اعتزاله من الحائض على أقوال:-
1.يعتزل فراش زوجته إذا حاضت، وهذا مروي عن ابن عباس قال القرطبي:" وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه"( ).
2.يعتزل موضع الدم ، روي هذا عن عائشة والثوري ومحمد بن الحسن وداود واستدلوا بحديث "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"( ).
لكن حديث: «ما فوقَ الإزار» . يخص بمفهومه عموم «اصنَعُوا كلَّ شيء إلا النكاح» وعملاً بالأحوط( ).
3.له منها ما فوق الإزار، قال بهذا مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجمهور العلماء( )، واستدلوا بما ثبت عن عائشة أنها قالت:"كانت إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تأتزر ثم يباشرها"( )، أي يلصق بشرته ببشرتها فيما دون الإزار( ).
" وخرج بما بين السرة والركبة ما عداه من السرة والركبة"( ).
وقد اختلف العلماء في فهم المباشرة فوق الإزار فـ" قال بعضهم: المراد منه ما فوق السرة، فيحل الاستمتاع بما فوق سرتها، ولا يباح بما تحتها إلى الركبة.
وقال بعضهم: المراد منه مع الإزار، فيحل الاستمتاع بما تحت سرتها سوى الفرج، لكن مع المئزر لا مكشوفاً .
ويمكن العمل بعموم قولهما بما فوق الإزار؛ لأنه يتناول ما فوق السرة وما تحتها سوى الفرج مع المئزر، إذ كل ذلك فوق الإزار، فيكون عملاً بعموم اللفظ"( )فالذي يظهر الحمل على المعنيين إذ لا تناقض بينهما( ).
"قال العلماء مباشرة المرأة وهى متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك منه ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع، فأمر بذلك احتياطاً، والمحرم نفسه موضع الدم، فتتفق بذلك معاني الآثار ولا تضاد"( ).
علما أنه" لا ينبغي له أن يعتزل فراشها، لأن ذلك تشبه باليهود، وقد نهينا عن التشبه بهم ، وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك، فبلغ ميمونة رضي الله عنها، فأنكرت عليه، وقالت: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «كان يضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض»"( ).
وبناءً على ما سبق فلا يجوز للزوج أن يجامع زوجته في فترة الحيض وللمرأة الحق بل واجب عليها أن تحاول دفع زوجها عن ذلك.
ثانياً: إتيان الدبر: وقد أجمع العلماء على حرمةإتيان المرأة في دبرها لقوله تعالى:نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(البقرة:223).
أما سبب نزول هذه الآية ففيه أقوال منها:
أن سبب النزول هو قول اليهود: إذا أتى الرجل زوجته من دبرها جاء الولد أحول فعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت الآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ( )وزاد "الزهري إن شاء مجبية، وإن ذلك في صمام واحد"( ).
والمجبّية: أي المكبوبة على وجهها. والصمام: الثقب، والمراد به القبل( )،ذلك أن" الصمام بكسر الصاد المهملة وتخفيف الميم، وهو في الأصل سداد القارورة ثم سمي به المنفذ كفرج المرأة"( ).
هذا وقد "أخرج هذا المعنى جماعة من المحدثين عن جابر وغيره واجتمع فيه ستة وثلاثون طريقاً في بعضها أنه لا يحل إلا في القبل، وفي أكثرها الردّ على اليهود"( ).
و(أنى) تأتي للزمان والمكان والهيئة أو الكيفية ففي الآية إباحة لإتيان الزوج زوجته في أي زمان إلا زمن الحيض وفي أي مكان وعلى أية هيئه بشرط اتقاء الدبر ولهذا ورد في السنة عن بن عباس قال جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثم يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك قال حولت رحلي الليلة قال فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قال فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم أقبل وأدبر وأتق الدبر"( ).
ومما يدل على الحرمة ويؤيدها مايلي:
1- ماجاء في السنه من النهي عن إتيان المرأة في دبرها:-
•عن ابن عباسعن النبـي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأة في دبرها"( ).
•عن ابن مسعود عن النبـي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"محاش النساء حرام عليكم"( ).
•عن أبي هريرة عن النبـي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد"( ).
•عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "مَلْعُونٌ مَنْ أتى امرأةً في دبْرِها" ( ).
•عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"هي اللوطية الصغرى"يعني اتيان النساء في أدبارهن( ).
2-أن الأصل تحريم المباشرة إلا ما أحله الله،ولم يحل تعالى إلا القبل كما دل له قوله: فٱتوا حرثكم أنى شئتم وقوله: فأتوهن من حيث أمركم الله ولا يقاس عليه غيره،لعدم المشابهة في كونه محلاً للزرع( ).
3- إن الله عز وجل أباح موضع الحرث،والمطلوب من الحرث نبات الزرع، فكذلك النساء الغرض من إتيانهن هو طلب النسل لا قضاء الشهوة وهو لا يكون إلا في القبل فيحرم ما عدا موضع الحرث( ).
4- وأما حل الاستمتاع فيما عدا الفرج فمأخوذ من دليل آخر، وهو جواز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج( ).
5- أن قضاء الشهوة من المقاصد الأساسية للإنسان من النكاح، بيد أن حفظ النسل من المقاصد الشرعية الضرورية الكلية، وقضاء الشهوة هو من الوجهة المقاصدية مسألة تحسينية أو حاجية أومكملة لمقصد حفظ النسل، وبهذا يتضح هنا الفرق بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ، وهنا قاعدة مقاصدية هامة تفيدنا في هذا الموضوع،وهي أنه إذا تعارض المقصدان قدم قصد الشارع،وهنا تعارض قصد الرجل في إتيان الدبر لقضاء شهوته المريضة مع قصد الشرع الذي طلب النسل-والإتيان من الدبر يعارض هذا المقصد-والحفاظ عليه وجعل قضاء الشهوة والحلال وسيلة لذلك فيقدم قصد الشرع ،لأن الشارع هو الحاكم أولاً ولأن الشريعة جاءت لتخرج الإنسان من داعية هواه كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات( ).
6- أن للمرأة حقاً في قضاء شهوتها، لا يجوز للرجل بحال من الأحوال إغفاله،وفي إتيان المرأة من دبرها قضاء على هذه الشهوة، واعتداء على حق الزوجة، وإفساد للعشرة الزوجية.
7-قد حرم الله الوطء في الفرج لأجل الأذى، فما الظن بالحش الذي هو موضوع الأذى اللازم في زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل الذي هو العلة الغائية في مشروعية النكاح، والذريعة القريبة جداً الحاملة على الانتقال من ذلك إلى إدبار المرد، وكفى منادياً على خساسته أنه لا يرضى أحد أن ينسب إليه ولا إلى إمامه تجويز ذلك ( ).
"من المعلوم أن المرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة، بل محل الحراثة هو الموضع المعين منها، فلما حمل مواضع الحراثة على ذوات النساء احتجنا إلى تقدير مضاف آخر في المبتدأ،والتقدير: أبضاع نسائكم حرث لكم، ولا شك أن موضع حراثة الولد ليس أماكن متعددة بل هو موضع معين منها،فلم يكن حمل قوله (أنى شئتم) على التخيير في الأمكنة، فيكون محمولاً على التخيير في الكيفيات"( ) .
وبهذا "يتضح أن إتيان النساء في أدبارهن عمل شنيع، وجرم فظيع، لا يقره شرع، ولا يرضى به عاقل،ومفاسده لا تعد، ولا تحصى، بل ربما كان أخطر على الفرد والأسر والجماعات من أي جناية أخرى غيرها من أنواع المحرمات، فليتق الله هؤلاء السفلة الذين يأتون نساءهم في أدبارهن، ويعملون عمل قوم لوط، ويظنون أنه جائز في الإسلام"( ).
هذا الأمران هما فقط المحضوران وما عداهما من الاستمتاعات جائزة بشرط ألا يكون فيه ضرر على الزوجين أو أحدهما .
خطأ فادح:-
من الأخطاء الفادحة التي يقع فيها البعض أن يترك زوجته شهوراً وربما سنيناً تحت مسمى الدعوة والخروج، وهذا لايجوز -بلا شك- إلا بشرطين:-
1- ألا تزيد فترة الخروج هذه على أربعة أشهر، إذ هو زمن اعتبره الشرع أكبر زمن في الإيلاء، (للذين يؤلون من نسائهم) .
وهو الزمن الذي حدده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب للمجاهدين بعد استشارته لابنته عن أكثر زمن تصبر فيه الزوجة عن زوجها .
فإذا أراد الزوج الزيادة فلا بد من رضا الزوجة، ذلك لأن الخروج في غالبه مندوب إليه، ورعاية الزوجة والقيام بحقوقها واجب، ولا شك أن الواجب مقدم على المندوب .
وينبغي ألا يحرج الزوج زوجته، ويدفعها للتنازل عن هذا الحق، وهو يعلم أنها لم ترض إلا حياءاً، وإذا كان لا يجوز أخذ مال امرئ إلا بطيبة من نفسه، فكيف بما إهماله أقسى من أخذ شيء يسير من المال.
2- ألا يترتب على غيابه مفسدة أكبر، فالذي لوحظ في بعض الحالات أن الزوج يخرج ليدعو الناس، وهو لم يدع زوجته وأولاده، ولم يربهم على المنهج الديني، ولهذا ما إن يخرج الرجل حتى تفسد الأمور أكثر من ذي قبل.
ومثل هذا أيضاً من يترك زوجته سنين عددا بحجة العمل أو الدراسة في الخارج.
ثانياً: التزين :-
لا شك أن للجمال أثر في النفوس، والشيء الجميل تعشقه الأعين، والزوجة التي تتزين لزوجها وتتعطر له -فيراها وردة متفتحة، فينشرح صدره ويرتاح فؤاده- تكون قد أدت واجباً عليها تجاه زوجها، وكذلك الزوج يجب عليه أن يتزين لزوجته وأن يجعلها تراه كما يحب أن يراها، كما قال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله تعالى يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) ( ).
وروي عن أبي يوسف أنه قال:"كما يعجبني أن تتزين لي زوجتي يعجبها أن أتزين لها"( ).
ودليل الوجوب هنا هو الآية السابقة والنظرة المقاصدية، فالحفاظ على الأسرة وطلب الشرع للنسل والمحافظة عليه يجعل ما يوصل إليه واجباً، وما ينقضه حراماً، والنظرة المقاصدية قاعدة عظيمة دلت عليها أدلة الشرع بالاستقراء كما قال الشاطبي في موافقاته، فهي في حقيقتها أقوى من القواعد الفقهية الجزئية .
ومما يفيد هنا أن الفقهاء فرقوا يبن أنواع الزينة باعتبار ذاتها، وزمانها، ومكانها. وهذا يرينا مقدار اهتمام الدين الإسلامي وعلمائه بالأسرة، ليس فقط في عمومياتها بل في جزئياتها الدقيقة وكماليتها، يقول القرطبي:" قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب ... ففي هذا كله ابتناء الحقوق، فإنما يعمل على اللبق والوفاق، ليكون عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال، وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به، ومنهم من لا يليق بهم ...الخ"( )
ضوابط زينة المرأة:-
وللزوجة أن تتزين بما شاءت من أنواع الزينة من لباس وحلي وأدوات تجميل مع مراعاة التالي:-
1-عدم وجود ضرر في الزينة المستخدمة.
2-ألا يكون فيها تغيير لخلق الله، كأن تعمل عملية جراحية لتغيير شكل الأنف أو الفم مثلاً تقليداً لأخريات، أو لما يسمى بـ(الموضة) إذ قد ورد الوعيد الشديد في ذلك، أما إذا كان لمعالجة تشوه خَلقي فلا مانع منه.
3-ألا تتجمل بما لا يجوز كالوشم.
4-ألا تكون زينة محرمة كما لو وصلت شعرها بشعر امرأة أخرى، أو بشعر نجس.
ومن الزينة الجائزة للزوجة:-
1- استخدام المستحضرات التجميلية لتنقية الوجه وتصفيته، وأما حديث:"لعن الله القاشرة والمقشورة"( ) والذي فسر العلماء القاشرة بأنها التي "تعالج وجهها أو وجه غيرها بالحمرة ليصفو لونها، والمقشورة: التي يفعل بها ذلك، كأنها تقشر أعلى الجلد، قال الزمخشري القشر أن يعالج وجهها بالحمرة حتى ينسحق أعلى الجلد ويصفو اللون"( ) وبناء على هذا الحديث ذهب البعض إلى حرمة استخدام المستحضرات التجميلية لكن هذا الحديث ضعيف ، "قال الهيثمي فيه من لم أعرفه من النساء "( ) وعليه فالحكم باق على الجواز.
2-صبغ الشعر بأي لون كان السواد أو غيره.
3-نتف الشعر من الجسم مطلقاً سواء الحاجب أم الوجه أم غيرهما .
4-استخدام الباروكة والبوستيج إذا كانتا من غير شعر الآدمي، أو شعر نجس.
ثالثاً: ثبوت النسب:-
والمقصود هنا أن ما يثمره الزواج من أطفال ينسبون إلى أبيهم باعتبار أنهم من صلبه من زوجته، فثبوت النسب حق للزوجين والأطفال جميعاً.
رابعاً: حسن المعاشرة:-
وهذا من الحقوق المشتركة بين الزوجين، فـ"يجب على المسلم أن يصبر على زوجته إذا رأى منها بعض ما لا يعجبه من تصرفاتها، ويعرف لها ضعفها بوصفها أنثى فوق نقصها كإنسان، ويعرف لها حسناتها بجانب أخطائها، ومزايها إلى جوار عيوبها" قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف).
"وكما أوجب الإسلام على الزوج الاحتمال والصبر على ما يكره من زوجته، أمرت الزوجة هي الأخرى أن تعمل على استرضاء زوجها بما عندها من قدرة وسحر"( ).
خامساً: التوارث:-
بمعنى أن يرث كل واحد صاحبه إذا مات وهذا حق مشترك بينهما.
المبحث الثاني: حقوق الزوجة على زوجها
تنقسم حقوق الزوجة على زوجها على قسمين: حقوق مادية، وحقوق معنوية وسأجملها في النقاط التالية:-
1- المهر: فيجب على الزوج في عقد النكاح أن يدفع قدراً من المال للزوجة يسمى: المهر، والصداق، والأجر، وتكييفه أنه هبة وليس إجارة، وسمي أجراً تجوزاً ودليل مشروعيته قوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)(النساء24).
والمهر واجب في كل عقد نكاح على الزوج لزوجته بمجرد العقد الصحيح، فلا يملك الزوجان نفيه، إذ إن في المهر حقاً لله تعالى، فليس متمحضاً لحق المرأة، وهنا أجمل بعض الأحكام التي تهمنا في هذه النقطة:-
أولاً: يجوز تعجيل المهر جملة، وتأخيره جملة، كما يجوز تأجيل بعضه، وتعجيل بعضه( ) .
ثانياً: يجب المهر بنفس عقد الزواج، ولكن لا يجب كله إلا في ثلاث مواضع:-
أ-الدخول بالزوجة وقد نقل الاتفاق على ذلك غير واحد من العلماء( ) لقوله تعالىوإن أردتم استبدال...غليظا) ولا بد من دخول حقيقي لا مجرد اللمس والنظر على خلاف فيه( ) لقوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن والمسيس هنا كناية عن الوطء بإجماع( ).
ب-إذا مات أحد الزوجين قبل الدخول، وهو أمر متفق عليه "لأنه لايبطل النكاح بدليل التوارث، وإنما هو نهاية له"( ).
ت-يرى أبو حنيفة ومن وافقه من الحنابلة وغيرهم أنه إذا اختلى الرجل بزوجته خلوة صحيحة استحقت الصداق كاملاً، واستدلوا بالآية السابقة قال في البدائع:"نهى سبحانه وتعالى الزوج عن أخذ شيء مما ساق إليها من المهر عند الطلاق، وأبان عن معنى النهي لوجود الخلوة، كذا قال الفراء: إن الإفضاء هو الخلوة دخل بها أو لم يدخل، ومأخذ اللفظ دليل على أن المراد منه الخلوة الصحيحة، لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض...فكان المراد منه الخلوة على هذا الوجه، وهي التي لا حائل فيها ولا مانع من الاستمتاع عملاً بمقتضى اللفظ"( ).
وبما روي عن رسول الله أنه قال:"من كشف خمار امرأته، ونظر إليها وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل"( ).
وبما روي عن زرارة بن أبي أوفى أنه قال:" قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور وأغلق الباب فلها الصداق كاملاً، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل بها"( )، وحكى الطحاوي في هذه المسألة إجماع الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم".( )
في حين رأى الإمامان مالك والشافعي في الجديد أن الخلوة لا تقوم مقام الدخول، واستدلوا بالآية السابقة أيضاً، وقالوا: إن الإفضاء هنا هو الجماع، واستدلوا بقوله تعالى وإن طلقتموهن...فرضتم) قالوا: والمراد بالمس الجماع"( ) .
قال ابن رشد: "نص تبارك وتعالى في المدخول بها المنكوحة أنه ليس يجوز أن يؤخذ من صداقها شيء في قوله تعالى: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ونص في المطلقة قبل المسيس أن لها نصف الصداق فقال تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم وهذا نص كما ترى في حكم كل واحدة من هاتين الحالتين أعني قبل المسيس وبعد المسيس ولا وسط بينهما، فوجب بهذا إيجاباً ظاهراً أن الصداق لا يجب إلا بالمسيس، والمسيس ههنا الظاهر من أمره أنه الجماع"( ).
وقد رد أصحاب هذا القول على ما ساقه أصحاب القول الأول من آثار وفحصوا أسانيدها فوجدوها مما لا يحتج بها( )وبهذا يتبين رجحان عدم اعتبار الخلوة مؤكداً لاستحقاق جميع المهر.
ثالثاً: إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، وقد كان سمى لها مهراً، فإن للمرأة هنا نصف المهر، وكذا بإيلاء الزوج "وردته، ولعانه، وإرضاع أمه لها، أو إرضاع أمها له وهو صغير يشطره -أي بنصف المهر- أما في الطلاق فلآية (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وأما الباقي فبالقياس عليه"( )
وضابط ما يسقط المهر وما يشطره أن الفرقة قبل الوطء إذا كانت منها كفسخها بعيبه، أو ردتها أو رضاعها زوجة صغيرة له، أو بسببها كفسخه بعيبها يسقط المهر في الحالين .
وأما إذا لم يكن منها ولا بسببها كما سبق تمثيله ففي الحالة هذه فإنه يشطره( ) .
رابعاً: إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقاً وجب عليه المتعة لقوله تعالى(ومتعوهن...المحسنين)والمتعة هي: "مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المفارقة في الحياة بطلاق وما في معناه بشروط"( ) .
وقد شرعت المتعة تعويضاً للمرأة "عما فاتها، وهذا نوع من التسريح الجميل، والتسريح بإحسان"( ).
وتجب المتعة في مواضع غير الطلاق، ففي مغني المحتاج مع المنهاج أنها تجب "في فرقة لا بسببها، بأن كانت من الزوج كردته ولعانه وإسلامه، أو من أجنبي كإرضاع أم الزوج، أو بنت زوجته، ووطء أبيه، أو ابنه لها بشبهة...أما إذا كانت الفرقة منها، أو بسببها كردتها، وإسلامها ولو تبعاً، أو فسخه بعيبها، فلا متعة لها سواءً كانت قبل الدخول أم بعده؛ لأن المهر يسقط بذلك، ووجوبه آكد من وجوب المتعة"( ) وبمثل هذا قال الأحناف.
وإذا تزوج ولم يسم مهراً في عقد النكاح ثم فرض لها مهراً بعد ذلك، ثم طلقها قبل الدخول فهل تجب المتعة ولا شيء لها من المهر؟ أم لها نصفه ولا متعة لها؟ قولان، ذهب الشافعي والحنابلة إلى أنم لها نصف المهر.
واستدلوا بقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) ولأنه مفروض يستقر بالدخول فتنصف بالطلاق قبله كالمسمى في العقد( ) .
ووجه الاستدلال بالآية: أن الله أوجب "نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول مطلقاً من غير فصل بين ما إذا كان الفرض في العقد أو بعده، ولأن الفرض بعد العقد كالفرض في العقد، ثم المفروض في العقد يتنصف، فكذا المفروض بعده"( ) .
وذهب أبو حنيفة ورواية عن الإمام أحمد إلى أن لها المتعة فقط، ويسقط المهر المفروض بعد النكاح .
واحتجوا بقوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تسموهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن) قالوا: "أي ولم تفرضوا لهن فريضة، وهو منصرف إلى الفرض في العقد، لأن الخطاب ينصرف إلى المتعارف، والمتعارف هو الفرض في العقد لا متأخراً عنه، وبه تبين أن الفرض المذكور في قوله تعالى (وإن طلقتموهن من قبل أن تسموهن وقد فرضتم لهن فريضة) منصرف إلى المفروض في العقد لأنه هو المتعارف"( ) .
وعلله ابن قدامة بأنه "نكاح عري عن تسميته فوجب به المتعة، كما لو لم يفرض"( ) .
ولم يرد في القرآن أو السنة تحديد لقدر المتعة، ولهذا اختلف الفقهاء في ضبطها فذهب الشافعية في المعتمد عندهم أن المعتبر حال الزوجين معاً، يسار الزوج وإعساره، ونسب الزوجة وصفاتها( ) .
وعندهم وجه ثان: أن المعتبر حال الزوج( ) وهو المنصوص عن أحمد( ) .
ووجه ثالث: أن المعتبر حالها( ) لأن المهر معتبر بها، فكذلك المتعة القائمة مقامه( )
ووجه رابع ضعيف: أنه أقل مال( ) فكما يجوز جعله صداقاً يجوز جعله متعة( ).
هذا وقد حاول بعض الفقهاء تحديد المتعة، فقال بعضهم: أعلاها خادم، وأدناها كسوة يجوز أن تصلي فيها إلا أن يشاء هو أن يزيدها، أو تشاء هي أن تنقصه( ) .
وقال بعضهم: المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة( ).
وذهب الشافعي إلى أنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم( )، وقيل غير ذلك.
وأجاز الأحناف إعطاء النقود( ) .
والذي يترجح هو أن متعة الطلاق "تكون بتقديم الزوج لمطلقته ما تكتسي به وتستتر به عند الخروج من بيتها، حسب العرف والعادة في كسوة النساء حسب المكان والزمان.
ويتقدر ذلك بحال الزوج بيساره وإعساره، كما هو نص الآية الكريمة.
وأنه يجوز دفع النقود بدلاً عن الكسوة للمرأة في المتعة المستحقة لها على زوجها الذي طلقها إذا كان دفع النقود أنفع وأصلح لها من الثياب .
وهذا الأنفع للمرأة يختلف باختلاف المكان، والزمان، وعرف الناس وعاداتهم فيما يدفعونه للمرأة في المتعة المستحقة لها على مطلقها"( ) .
كما أن للحاكم أن يحددها بتقنين يراعي فيه ما سبق.
والمتعة تجب لكل مطلقة عند الشافعية وآخرون لعموم قوله تعالى(وللمطلقات...المتقين) وخصوص قوله تعالى(فتعالين امتعكن) وقالوا: في هذه الآية تقديم وتأخير، أي فتعالين أسرحكن وأمتعكن، وكلهن مدخولات بهن( ) .
وذهب الحنابلة إلى أن المتعة مستحبة في غير المطلقة قبل الدخول، والتي لم يفرض لها مهر في عقد النكاح( ) وهو مذهب الحنفية إذا كان الطلاق بعد الدخول، أما إذا كان قبل الدخول وقد سمى لها مهراً فالمتعة هنا لا واجبة ولا مستحبة، إذ المتعة عند الأحناف على ثلاثة أوجه:-
1.متعة واجبة، وهي للمطلقة قبل الدخول، ولم يسم لها مهراً.
2.متعة مستحبة، وهي للمطلقة بعد الدخول.
3.متعة لا واجبة ولا مستحبة، وهي للمطلقة قبل الدخول وقد سمى لها مهراً( ).
وقد دلل ابن قدامة في المغني لمذهبه بأن قال "ولنا قوله تعالى (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن)
ثم قال (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) .
فخص الأولى بالمتعة، والثانية بنصف المفروض، مع تقسيمه النساء قسمين، وإثباته لكل قسم حكماً، فيدل ذلك على اختصاص كل قسم بحكمه، وهذا يخص ماذكروه"( )أي قوله تعالى(وللمطلقات متاع بالمعروف)
خامساً: الزوج هو المكلف بتجهيز البيت وتأثيثه من ماله لا من مهر زوجته، فهو ليس واجباً على الزوجة، لأن المهر إنما استحقته الزوجة بسبب ما استحل من فرجها، ولهذا فالمهر حق خالص للزوجة، وتجهيز البيت يدخل ضمن واجبات الرجل بل هو جزء من النفقة( ) .
قال ابن حزم : "ولا يجوز أن تجبر المرأة على أن تتجهز إليه بشيء أصلاً لا من صداقها الذي أصدقها، ولا من غيره من سائر مالها، والصداق كله لها تفعل فيه كله ما شاءت، لا إذن للزوج في ذلك ولا اعتراض، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهم"( ).
قال ابن قدامة: "إن المرأة إذا اسلمت نفسها إلى الزوج على الوجه الواجب عليها فلها عليه جميع حاجتها من مأكول، ومشروب، وملبوس، ومسكن"( ) .
نعم خالف المالكية هنا وقالوا بلزوم تجهيز البيت على المرأة، فقد جاء في الشرح الكبير للدردير مع المختصر "ولزمها التجهيز على العادة في جهاز مثلها لمثله بما قبضته من مهرها، إن سبق القبض البناء، كان حالاً أو مؤجلاً وحل، فإن تأخر القبض عن البناء لم يلزمها التجهيز به، سواء كان حالاً أو حل إلا لشرط أو عرف"( ) وقالوا: لا يجوز للزوجة أن تنفق من صداقها على نفسها، ولا تقضي منه ديناً عليها، لأنه يلزمها التجهيز بما قبضته واستثنوا المحتاجة بأن تنفق منه وتكتسي الشيء القليل بالمعروف، كذا الدين القليل كالدينار من مهر كثير، وأما إن كان قليلاً فتقضى منه بحسبه( )،
وقد رد ابن حزم على المالكية رداً قاسياً واستدل لقوله وقول الجمهور بقوله تعالى
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئاً مريئا) وقال: "فافترض الله عز وجل على الرجال أن يعطوا النساء صدقاتهن نحلة، ولم يبح للرجال منها شيئا إلا بطيب أنفس النساء... ووجدنا الله عز وجل قد أوجب للمرأة حقوقاً في مال زوجها أحب أم كره، وهي: الصداق، والنفقة، والكسوة والإسكان ما دامت في عصمته، والمتعة إن طلقها، ولم يجعل للزوج في مالها حقاً أصلاً، لا ما قلّ، ولا ما كثر"( ).
وقول الجمهور هو الذي يظهر رجحانه، ويبدو أن قول المالكية مبني على العرف وعلى قاعدة المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وإن حاولوا الاستدلال ببعض النصوص التي لا تؤيد قولهم.
ومع هذا فللزوجة المساهمة في إعداد بيت الزوجية، عن طيب نفس، ويكون ما اشترته خالصاً لها، وينتفع به الزوج انتفاعاً عرفياً بإذن الزوجة صراحة أو دلالة، وإذا تصرف فيه بغير ذلك فهو ضامن( ).
2- النفـقة:-
النفقة هي توفير ما تحتاج إليه الزوجة من طعام، ومسكن، وخدمة، ودواء، وإن كانت غنية( ).
قال ابن قدامة في المغني: "نفقة الزوجة واجبة بالكتاب، والسنة، والإجماع:-
•أما الكتاب فقول الله تعالى: ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) ومعنى قدر عليه أي ضيق عليه .
•وأما السنة فما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: " اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" رواه مسلم .
وجاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي .
فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" متفق عليه .
وفيه دلالة على:-
1.وجوب النفقة لها على زوجها وأن ذلك مقدر بكفايتها .
2.وأن نفقة ولده عليه دونها مقدر بكفايتهم .
3.وأن ذلك بالمعروف .
4.وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها بغير علمه إذا لم يعطها إياه .
•وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن، ذكره ابن المنذر وغيره"( )، وممن نقل الاتفاق ابن رشد( ) .
والنفقة تشمل عدة أنواع قال الخطيب الشربيني: "والحقوق الواجبة بالزوجية سبعة: الطعام، والإدام، والكسوة، وآلة التنظيف، ومتاع البيت، والسكنى، وخادم إن كانت ممن تخدم"( ).
وسبب وجوب النفقة هو حبس نفسها "في البيت من أجله وتمكنه من نفسها، وتشتغل في مصالحه وترعى بيته وأولاده نيابة عنه، فكما قامت هي بهذا الواجب له كان لزاماً أن يقوم هو بواجب آخر لها يناسب فطرته وتكوينه، وهو إيجاد النفقة حتى تتفرغ هي للوظيفة التي أسندت إليها بحكم عقد الزواج، وتقوم بها أحسن قيام"( ) .
قال ابن قدامة: " وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها"( ).
ومما يزيد هذا وضوحاً "إن الحياة الزوجية لابد أن تنهض على أحد أسس ثلاثة:-
الأول: أن يتولى الزوج الإشراف على بيت الزوجية، وأن يكون هو المسؤول عن النفقة على الزوجة والأولاد.
الثاني: أن تتولى الزوجة ذلك كله بدلاً من الزوج.
الثالث: أن يتعاون الزوجان في النهوض بالمسؤوليات المادية وتقديم النفقة.
فلو استبعدنا الأساس الأول -والذي هو حكم الشريعة الإسلامية- فستتحول المرأة إلى طالبة للزوج بدلاً من كونها مطلوبة، وستتجه إلى سبل الكدح والعمل من أجل الرزق ثم تصبح عرضة للسوء والانحراف، وواقعنا أكبر دليل على ذلك، وسيصبح البيت عندئذ مقفراً قلقاً، وبدلاً من أن يكون البيت عنصراً للسعادة عامراً بالرعاية والأنس، وبدلاً من أن تضل المرأة عزيزة يصبح البيت والزواج شقاءً لا يطاق"( ).
شروط وجوب نفقة الزوجة على زوجها:-
تجب النفقة على الزوج للزوجة بالشروط التالية:-