[right]إشكالية تعريف المضايق الدولية بين الفقه والقضاء الدوليين
عبد الحق دهبي
إذا كانت المضايق الدولية عبارة عن فتحات طبيعية ضيقة تصل بين بحرين أو مساحتين بحريتين، ويتجاوز اتساعها ضعف عرض البحر الإقلـيمي، فإن الفقه الدولي قد اختلف في تحديد تعـريف دقيق لها (الفقرة الأولى)، كما أن الـقضاء الدولي أسهـم بـدوره فـي صياغة تعريف للـمضيق الدولي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : تعريف المضايق الدولية حسب الفقه الدولي :
اتجه الفقه الدولي في تعريفه للمضيق الدولي اتجاهين رئيسيين هما : التعريف الجغرافي والتعريف الغائي أو الوظيفي، لكن لكي يتسنى تقديم تعريف دقيق جامع مانع ينطبق على جميع المضايق الدولية من وجهة نظر القانون الدولي لابد من الاعتماد على جملة معايير في آن واحد تؤدي بمجموعها إلى تطبيق نظام قانوني معين، وهذه المعايير هي : المعيار الجغرافي، المعيار الغائي أو الوظيفي ثم المعيار القانوني.
أولا : المدلول الجغرافي :
يرتبط التعريف الفقهي للمضايق الدولية بالتعريف الجغرافي أحيانا، فالمضيق من الناحية الجغرافية عبارة عن مياه تفصل إقليمين وتصل بحرين، لذلك فانه يشترط للاتصاف بوصف المضيق من الناحية الجغرافية عدة شروط أهمها :
الأول : أن تكون مياه المضيق جزءا من البحر وفقا لمفهوم القانون الدولي.
الثاني : أن يتم تكوينه بطريقة طبـيعية، ومن ثم تخرج عن مـفهوم المضايق القنوات التي يحفرها الإنسان ، وقد تكون مياه تفصل بين إقليمين وتصل بحرين كحالة قناة السويس.
الثالث : أن تكون فتحة المضيق بين منطقتين من الأرض ويصل منطقتين من البحر، بحيث لو لم يوجد المضيق لانفصلت المنطقتان البحريتان واتصلت الأرض.
ولكن يجب أن نلاحظ أن تعريف المضيق بالمعنى الجغرافي السابق غير كاف لأنه ليس كل مضيق جغرافي هو بمثابة مضيق دولي لزوما.
وقد أضاف الفقيه الفرنسي «شارل روسو – Charles ROUSSEAU» شرطا آخر مؤداه عدم خضوع المضيق لنظام خاص يحكمه ، معتبرا أن المضايق من وجهة النظر الجغرافية هي كل ممرات بحرية محصورة بين جزئين من الأرض، مهما كانت التسميات المستعملة : مضايق، ممرات، قنوات، مجاري مائية (étroit , passage maritime , canaux, pertuis, sound)...
أما الفقيه « ر. ج. ديـبـوي – René-Jean DUPUY » فقد اعتبر انه يمكن تعريف المضيق الدولي بأنه ممر بحري محصور بين جزئين من الأرض مهما كانت طبيعة هذه الأرض ومهما كانت سعة هذا الممر المائي ومهما كانت تسميته .
ويرى الفقيه الفرنسي « جيلبير جيديل Gilbert GIDEL » أن المضيق من الناحية الجغرافية هو ممر بحري محصور بين جزئين من الأرض مهما كانت طبيعة هذه الأرض ومهما كانت سعة هذا الممر المائي، موضحا أن المضيق من الناحية القانونية هو كل ممر طبيعي بين ساحلين لا يتجاوز عرضا معينا، ويسمح بالاتصال بين جزئين من المجالات البحرية، ومن غير المهم أن تعود هذه المجالات إلى بحر واحد أو بحرين، ولا يهم أيضا إذا كان الممر قائما بين جزيرة وإقليم أو بين جزيرتين أو مجموعة من الجزر.
وقد لقي هذا التعريف ترحابا من قبل العديد من الفقهاء العرب، حيث عرفها الأستاذ محمد حافظ غانم بأنها "عبارة عن فتحات طبيعية تصل بين بحرين" ، وسار في نفس الاتجاه الأستاذ علي صادق أبوهيف مؤكدًا بأن "الممرات البحرية هي تلك الفتحات التي توصل بحرين، وهي إما طبيعية وتشمل المضايق والبواغيز، وإما صناعية وتشمل القنوات" .
وعرفها الأستاذ عبد العزيز محمد سرحان بأنها " الفتحات الطبيعية التي لا يتجاوز اتساعها عرض البحر الإقليمي والتي تصل بحرين "، وفي نفس الاتجاه أكد الأستاذ محمد طلعت الغنيمي بأنها " مياه تفصل إقليمين وتصل بحرين " وأن " الممر المائي لا يكون مضيقا في القانون الدولي إذا توافرت له الأوصاف الجغرافية للمضيق فحسب، بل يجب إلى جانب ذلك أن يكون ممر المواصلات الدولية غير المتجهة إلى موانئ على شواطئ ذلك المضيق " .
وقـد ذهب هـذا المذهب كل من « ايريك برول Eric BRUEL » الـذي اعتبر أن المضايق هي تقلصات ذات عرض محدود في البحر بين أرضين تـربط بين بحرين لولاها لفصلتهما الأرض فـي ذلك المكان، و« ماركاريت وايتمان Margaret M. Whiteman » . فيما حصرها الأستاذ « رولان جاكمن Rollin JAEQUEMYNS » في تقريره المقدم إلى اللجنة الرابعة لمعهد القانون الدولي في دورته الاستثنائية المنعقدة بباريس سنة 1919 في كونها فقط تلك الممرات البحرية الطبيعية التي تؤدي إلى بحر حر أو بالأحرى بحرين حرين .
ويضيف بعض الفقهاء إلى المضيق صفة لابد من توافرها وهي أن يستخدم للملاحة الدولية عادة، وعلى ذلك يرى الفقيه « كافاريه Louis CAVARE » أن المـضيق له صفة جوهرية في أنه يصل بين جزئين من أعالي البحر وأن يكون مستعملا للملاحة الدولية.
في ضوء تلك الإضافة الفقهية يستبعد من مفهوم المضايق تلك التي تؤدي إلى بحر داخلي مغلق فالجوهري صفة الوصل بين بحرين عامين والاستعمال للملاحة الدولية .
لذا، يمكن أن نؤكد بأن التعريف الجغرافي للمضيق الدولي لا يتفق بالضرورة مع تعريفه القانوني، فالمضيق الدولي في الاصطلاح الجغرافي يقصد به ممر مائي يصل بين بحرين ويفصل بين جزئين من اليابسة، في حين أن مفهوم المضيق الدولي في الاصطلاح القانوني ينصرف إلى كل ممر مائي طبيعي ضيق يستخدم في الملاحة الدولية، ويصل بين جزئين من أعالي البحار.
وعلى ذلك، يمكن أن نستخلص من هذا التعريف، عناصر المضيق الدولي وهي :
-1 أن يكون قد تكون بطريق طبيعية، مما يعني أن الممرات التي صنعها الإنسان، كما هو الشأن بالنسبة للقنوات الدولية، لا تدخل في عداد المضايق .
-2 أن يكون ضيقا، لا يزيد اتساعه على ضعف اتساع البحر الإقليمي.
-3 أن يكون موصلا بين جزئين من أعالي البحار، ولا يهم بعد ذلك أن تطل عليه دولة واحدة أو أكثر.
-4 أن يكون مستخدما في الملاحة الدولية لجميع سفن دول العالم، ويتحقق هذا الشرط بصرف النظر عن كثافة الملاحة في المضيق أو مدى أهميته للملاحة، أي دون الاعتداد في ذلك بما إذا كان المضيق يشكل طريقا إجباريا يتعين اجتيازه أم انه توجد طرق أخرى يمكن استعمالها للمرور بدلا منه .
هذا، وجمعت محكمة العدل الدولية - كما سوف نرى في الفقرة الموالية - بين العنصرين الأخيرين – الثالث والرابع – في تعريف المضيق الدولي، وذلك عند نظرها في قضية مضيق كورفو بين بريطانيا وألبانيا ، حيث قررت المحكمة انه بالنسبة للمضايق التي تصل بين جزئين من أعالي البحار والمستخدمة في الملاحة الدولية يكون لجميع السفن بما فيها السفن الحربية الأجنبية الحق في ممارسة المرور البريء عبر تلك المضايق في وقت السلم دون ما حاجة إلى إذن مسبق من الدولة الساحلية .
وتنقسم المضايق الدولية من وجهة النظر الجغرافية إلى صنفين : الأولى تصل بين بحر عالي وبحر داخلي، كمضيق "كرتش" الذي يصل بين البحر الأسود وبحر أزوف. والثانية تصل بين جزئين من البحار العالية مثل مضيق ماجلان الذي يصل بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي، ومضيق جبل طارق الذي يصل بين المحيط الأطلسي والبحر الأحمر المتوسط.
ومما تقدم، نخلص إلى أن أهم ما يميز المضيق جغرافيا هو انه ممر طبيعي، لذا فهو يختلف في طبيعته عن القنوات التي تمثل ممرات صناعية، ويتميز المضيق كذلك بطبيعة المياه التي يصل بينها، إذ انه يصل بين بحر عال وبحر عال آخر أو بين بحر عال وبحر إقليمي.
ثانيا : المدلول القانوني :
يقضي المعيار القانوني في تعريف المضيق الدولي بأن يكون هذا الممر البحري محدود الاتساع أي أن لا يزيد اتساع هذا المضيق عن ضعف مساحة البحر الإقليمي للدولة أو الدول المطلة عليه، فالمضيق الذي يزيد اتساعه عن ذلك ويتوافر فيه شريط من البحر العالي على امتداده لا يعتبر من المضايق ولا ينطبق عليه نظامها، وإنما ينطبق عليه نظام البحر العالي، شريطة أن يكون ذلك الشريط صالحا للملاحة الاعتيادية الأمينة بكامله وبالخصائص الملاحية والهيدروغرافية نفسها .
وبطبيعة الحال فإن المفهوم الجغرافي للمضيق لا يتطابق بالضرورة مع مفهومه القانوني، فتحديد طبيعة المياه التي يتكون منها المضيق أو تلك التي يربط بينها أمر ضروري لتحديد صفته، إذ يجب ألا يزيد عرض المضيق عن ضعف عرض البحر الإقليمي للدولة أو الدول المطلة عليه. فالمضيق الذي يزيد اتساعه عن ذلك العرض ويتوافر فيه جزء من البحر العالي على امتداده لا يعتبر من المضايق، ولا ينطبق عليه نظامها، وإنما ينطبق عليه نظام البحر العالي شرط أن يكون ذلك الجزء صالحا للملاحة الاعتيادية الأمينة.
وقد لا يكون هذا الجزء من المضيق صالحا لأسباب ملاحية، مما يضطر الملاحة مؤقتا أو بصورة دائمة إلى المرور عبر البحر الإقليمي كما هو الشأن بالنسبة لمضيق « الحزام الكبير Grand Belt »، وقـد يكون ذلك لأسباب سياسية أو عسكرية مما يضطر السفن إلـى استعمال مياه البحر الإقليمي للمضيق. لذلك لا يمكن استبعاد هذا النوع من المضايق بصورة مسبقة من وصف المضايق إلا إذا زالت جميع تلك الأسباب والموانع.
ولا يشترط لكي يكون المضيق كذلك أن يكون مغطى بالبحار الإقليمية على امتداده، بل يكفي أن يكون كذلك في بعض نقاطه، وكل ذلك يرتبط بعرض البحار الإقليمية للدول المطلة عليه.
وقد تقرر في مؤتمر تقنين القانون الدولي في لاهاي سنة 1930 أن المضيق الذي يزيد عرضه عن ضعف عرض البحر الإقليمي، ويتوافر فيه قطاع من البحر العالي يكون فيه ذلك القطاع متاحا للملاحة الدولية. إلا أن هناك استثناء لتلك الحال فيما إذا كان مدخل المضيق، أو أي نقطة فيه أقل من ضعف عرض البحر الإقليمي، وتوافر قطاع من البحر العالي في مكان آخر منه، وهنا ينبغي استخدام هذا القطاع لأغراض الملاحة ضمن البحر الإقليمي للدول المعنية.
ونظرا لأهمية هذه الفكرة، فقد طبقتها بعض الدول من الناحية العملية، فحددت حدود البحرين الإقليميين للولايات المتحدة وكندا مثلا بثلاثة أميال في مضيق « خوان دوفوكا Juan de Fuca » الذي يصل عرضه في بعض المناطق إلى 150 ميلا. وهذا ما فعلته الشيلي أثناء الحرب العالمية الأولى بالنسبة لمضيق ماجلان لغرض الدفاع عن حيادها، وذلك بموجب المرسوم الصادر في 15 دجنبر 1914.
وقد أخذ بعض رجال الفقه الدولي على اختلاف مرجعياتهم بهذا المفهوم لتعريف المضيق الدولي، فيـرى في هـذا الإطار الأستاذ « أوبـنـهـايـم Francis Oppenheim » أن المقصود بالمضيق الذي تنطبق عليه قواعد القانون الدولي، المضيق المكون من البحار الإقليمية ويصل بين جزئين من أعالي البحار، وقد أخذ « كـولـومبس John Colombos » كذلك بهذا المفهوم. وتبنى التعريف نفسه تقريبا الفقيهان « زاهـوفـيج و بـيـشـوب M. Sahovic and W.W.Bishop » .
ثالثا : المدلول الغائي أو الوظيفي :
قد لا يكفي الاعتماد على المعيار الجغرافي أو القانوني أوكليهما معا لتعريف المضيق، ولا بد من إضافة معيار ثالث هو المعيار الغائي أو الوظيفي الذي يعتمد على استخدام المضيق للملاحة الدولية بصرف النظر عن كثافة أو أهمية تلك الملاحة. لذا يذهب الفقه إلى تعريف المضيق وفقا لهذا المعيار باعتباره ممرا مائيا ضيقا يستخدم للملاحة الدولية بين جزئين من المجالات البحرية، ويشترط فيه أن يكون مستخدما في الملاحة الدولية « Used for international navigation » بصرف النظر عن كثافة أو أهمية تلك الملاحة، وبغض النظر كذلك عن طبيعة الأرض التي يقع فيها المضيق، ومهما كانت البحار التي يصل بينها، ومهما كان الاسم الذي يطلق عليه، إذ أن المضايق التي تصل بين جزئين من البحار ولا تستخدم في الملاحة الدولية لا يمكن أن توصف بالمضايق الدولية، لأنها تستخدم للملاحة الداخلية أو الوطنية لدولة أو دول معينة بالذات.
إلا أن تحديد درجة الاستعمال الكافية لاعتبار مضيق ما مضيقا دوليا قضية معقدة تحتاج إلى استعمال عدة معايير لمعرفتها، ويرى الفقيه الدنمركي « ايـريك بـرول Eric BRUEL » أن أهمية المضيق للتجارة البحرية الدولية بمعناه الواسع للسفن التجارية والسفن الحربية هو العامل الحاسم في هذا الخصوص، ولكن مقدار سعة وعمق هذه المصالح لا يمكن أن يحدد بأي قاعدة، جامدة أو مرنة وحدها. فهي قضية واقع يعتمد على عدد من الحقائق كعدد السفن المارة في المضيق، حمولتها الكلية، قيمة هذه الحمولة ومعدل حجم السفن خاصة إذا كانت موزعة على عدد كبير أو صغير من الأمم، كل ذلك أدلة مجتمعة دون أن يكون أحدها عاملا حاسما وحده . وهكذا ينتهي هذا الفقيه إلى القول بأنه لا يجب أن نطلق صفة المضيق الدولي إلا على تلك المضايق التي تحتل أهمية معتبرة في التجارة الدولية البحرية، وعلى حد تعبيره فانه لكي نصف المضيق بالصفة الدولية فان ذلك يعني أن المصلحة المتصلة بالمضيق مصلحة ذات طابع دولي واسع، وهو يقرر كذلك أن عدد المضايق التي تحوز هذه الصفة محدود.
وقد حاول بعض رجال الفقه الدولي المزج بين معيارين أو أكثر من المعايير السابقة لوضع تعريف للمضايق يكون أشمل في معناه من التعاريف التي وردت في كتابات فقهاء آخرين ممن أشرنا إلى بعضهم، فقد اعتمد الفقيه « كـافـاريه Louis CAVARE » تعريف يتكون من عنصرين أساسيين، أولهما أن يصل المضيق بين جزئين من البحر العالي، والثاني أن يستخدم للملاحة الدولية .
أما الفقيه « فـارانـد Donalt PHARAND » فقد اعتمد ثلاثة معايير، وعرف المضيق بأنه "ممر طبيعي ضيق بين أرضين يكون بعرض لا يتجاوز 12 ميلا بحريا، ويربط جزئين من البحار العالية ببحر إقليمي لدولة أجنبية، ويستخدم للملاحة الدولية"، وقد بين أن مقدار الاستخدام المذكور يتحدد بالرجوع إلى عاملين هما عدد السفن المستخدمة للمضيق وعدد الدول المستخدمة له .
رأينا الخاص :
تبعا لما سبق بيانه، يتضح أن التعريفات هاته، وان كثرت فإنها لا تختلف إلا في بعض ألفاظها، أما مدلولاتها فإنها متقاربة، الشيء الذي يمكن معه إبداء الملاحظات التالية :
- الاتجاه القانوني كان متأثرا بالمبدأ القديم للبحر الإقليمي الذي كان مداه في السابق لا يتعدى ثلاثة أميال بحرية، ولذلك كانت هناك مجالات بحرية تعتبر من البحر العالي سواء في المضايق أم في البحار التي تصل بينها.
- اتساع مدى البحر الإقليمي حول بعض المجالات البحرية التي كانت تعتبر بحرا عاليا بحرا إقليميا، لذلك فان هذا الاتجاه أصبح لا يتلاءم مع التطور الحاصل.
- يؤخذ على الاتجاه الجغرافي – وكذا الاتجاه القانوني - الذي يقصر اتساع المضيق على الفتحة التي لا تتجاوز نصف اتساع البحر الإقليمي أن من المضايق ما يتجاوز ضعف اتساع المياه الإقليمية ، ولكن مسطح البحر العالي ليس صالحا للملاحة بحيث تضطر السفن إلى سلوك مسارها داخل المياه الساحلية للدولة الساحلية ، ومثال ذلك الجزء الصالح للملاحة من مضيق «الحزام الكبير Grand Belt» قرب سواحل جزيرة « سيلاند Sealand »، الأمر الذي يشكك في سلامة النظرية التي تحصر المضيق في الممرات ذات الاتساع المحدود ، كما أنها لا تتماشى مع الاتجاه المعاصر الذي ينحو إلى الامتداد بالاختصاصات الإقليمية إلى مسافات في البحر العالي .
- التعريف الذي ينطبق على المفهوم الجغرافي للمضيق ، هو تعريف غير شاف ، لان ليس كل مضيق جغرافي مضيقا دوليا.
من خلال استشفافنا لمختلف التعاريف الفقهية المشار إليها أعلاه، والتي حاولنا قدر الإمكان ملامسة وتحديد مدلول المضايق الدولية، وتوضيح مراميها ومعناها، يتضح لنا بجلاء أن التضارب والاختلاف يطبعها سواء من حيث تحديد عرضها واتساعها وطبيعة مياهها، أو من حيث الضوابط الواجب الاعتماد عليها لتقييم أهميتها الملاحية ومدى استعمالها في الملاحة الدولية، أو من حيث المساحات والمجالات البحرية التي تربط بينها.
ونعتقد أن الأمر ليس باليسر والسهولة لتبني هذا الاتجاه، والتنكر للآخر، لكن الذي يجب ألا يغرب عن أذهاننا أن عبارة مضيق دولي تحمل في طياتها دلالات قانونية وأخرى جغرافية دون أن نستبعد الجانب الوظيفي الذي لا يقل أهمية.
وإذا جاز لنا الدلو بدلونا في معين هذا الخلاف، فإننا نؤيد الاتجاه الذي سار فيه الفقيه « فاراند Donalt PHARAND »، وإن كان لنا من اقتراح لتعريف المضايق الدولية، فإننا نقول بأن : المضيق الدولي هو ممر مائي طبيعي أو شبه طبيعي يصل بين جزئين من البحار العالية أو جزء منها ببحر إقليمي لدولة أجنبية ويستخدم للملاحة الدولية، ولا يزيد اتساعه عن اتساع البحار الإقليمية للدولة أو الدول المطلة عليه.
الفقرة الثانية : تعريف المضايق الدولية في القضاء الدولي
اهتمت محكمة العدل الدولية بوضع معيار للمضيق الدولي في قرارها المعروف في قضية مضيق كورفو، التي ثار فيها الخلاف بين ألبانيا و بريطانيا حول طبيعة هذا المضيق على إثر انفجار ألغام على بوارج حربية بريطانية لدى مرورها بالمضيق مما تسبب لها في أضرار مادية جسيمة وخسائر في الأرواح ، وما إذا كان يسمح بالملاحة فيه للسفن الحربية البريطانية، علما بان هذا المضيق يقع بأكمله في أراضي ألبانيا.
أولا : وقائع قضية مضيق كورفو
يقع مضيق كورفوCORFU، بين جزيرة كورفو اليونانية وسواحل اليونان من الغرب، وبين ألبانيا من جهة الشرق، ويتراوح عرضه ما بين ميل وتسعة أميال ونصف. ويدخل الجانب الغربي من المضيق في البحر الإقليمي لليونان، في الوقت الذي يعتبر القسم الشرقي منه جزءا من البحر الإقليمي لألبانيا.
وتتلخص وقائع قضية مضيق كورفو في أن المدفعية الساحلية لألبانيا قامت بإطلاق قذائف مدفعيتها على سفينتين حربيتين تابعتين لبريطانيا ، أثناء مرورهما في المياه الإقليمية لألبانيا في مضيق كورفو بتاريخ 15 ماي 1946.
ونتيجة لذلك، بعثت الحكومة البريطانية بمذكرة احتجاج إلى ألبانيا في 2 غشت 1946، موضحة فيها رأيها بشأن المرور البريء في المضايق، داحضة بذلك وجهة نظر ألبانيا التي تشترط الحصول على إذن مسبق، ومؤكدة عدم اعتراف بريطانيا بأي حق لألبانيا في وضع أي شروط على حركة المرور في المضيق المذكور، متمسكة بحقها في المرور البريء في المضايق الدولية التي تكون طرقا للتجارة البحرية الدولية بين جزئين من أعالي البحار. ووجهت بريطانيا في نهاية المذكرة إنذارا إلى حكومة ألبانيا بأنه، في حالة فتح بطارياتها النار على أية سفينة من السفن البريطانية عند عبورها لمضيق كورفو، فإنها – أي بريطانيا – ستعامل بالمثل .
وفي 22 أكتوبر 1946 أرسلت بريطانيا سفينتين حربيتين بغرض التأكد من الإجراء الذي ستتخذه ألبانيا، وعند دخولهما البحر الإقليمي لمضيق كورفو تعرضت المدمرتان "سوما رينر" و"نولاق" لأضرار شديدة بسبب ارتطامهما بألغام بحرية، وخلف الحادث 44 ضحية بريطانية.
وفي 12 و13 نونبر 1946 قامت بريطانيا بالكشف عن الألغام بواسطة كاسحات ألغام بريطانية في المضيق، حيث قامت برفع اثنين وعشرين لغما، أخذت اثنين منهما إلى جزيرة مالطا لفحصهما هناك، ليتبين أن الألغام من صنع ألماني، كما أثبت التحقيق عبر شهادة الشهود والذين شاهدوا عملية زرع الألغام أن وضعها قد تم قبل عبور السفن الحربية البريطانية بوقت قصير.
وقد أحيل النزاع على مجلس الأمن الدولي الذي أوصى بعرضه على محكمة العدل الدولية باعتباره نزاعا قانونيا، التي نظرت في الموضوع بناء على اتفاق الطرفين وذلك في 25 مارس 1948، وقررت المحكمة في 9 أبريل 1949 مسؤولية ألبانيا عن الأضرار التي نتجت عن انفجارات الألغام البحرية في المضيق، وما سببته من خسائر وأضرار في الأرواح والأموال لأنها لم تعلن عن وجود الألغام، وهي ملزمة بذلك لصالح الملاحة الدولية.
وأشارت المحكمة في حكمها إلى مبدأ قانوني عام ، مفاده "أن الدول طبقا للعرف الدولي والمعترف به بصورة عامة لها الحق في وقت السلم في عبور سفنها العسكرية في المضايق الدولية التي تصل بين جزئين من أعالي البحار، بدون الحصول على إذن مسبق من الدولة الشاطئية، شريطة أن يكون المرور بريئا، وما لم توجد معاهدة دولية تقضي بخلاف ذلك، فليس من حق الدولة الشاطئية، أن تمنع المرور في المضايق الدولية، في وقت السلم".
" It is , in the opinion of the court , generally recognize and in accordance with international custom , that States in time of peace have a right to send their war-ships through straits used for international navigation between two parts of the high seas without the previous authorization of a coastal State , provided that the passage is innocent. Unless otherwise prescribed in an international convention , there is no right for a coastal State to prohibit such passage through Straits in time of peace " .
ثانيا : تعريف محكمة العدل الدولية للمضيق الدولي
أصدرت محكمة العدل الدولية في 9 أبريل 1949قرارا في قضية مضيق كورفو بين ألبانيا والمملكة المتحدة ، تعرف فيه المضيق الدولي بأنه الممر المائي الذي يصل بين جزئين من أعالي البحار ويستخدم عادة لأغراض الملاحة الدولية. وبذلك أخذت الـمحكمة بعاملين أساسيين فـي آن واحد، هـما الوضع الجغرافـي للمضيق كموصل لـجزئين مـن أعالـي البحار ، واستخدامه للملاحة الدولية « Useful route for international maritime traffic » ، وبذلك تكون المحكمة قد استبعدت من تعريف المضايق الدولية تلك التي تصل بحرا عاليا ببحر إقليمي. وقد رجحت المحكمة العامل الجغرافي على العامل الوظيفي في وضع التعريف ، فلم تشترط أن يكون المضيق طريقا ضروريا بين جزئين من البحر العالي، وإنما يكفي أن يكون كذلك حتى وان كان طريقا مفيدا وربما بديلا فقط، وبذلك تكون المحكمة قد اعتبرت المقياس الأساسي للمضيق هو المعيار الجغرافي، ورفضت اعتبار حجم المرور أو أهمية المضيق للملاحة الدولية "معيارا حاسما" أو"مقياسا" رغم أن النص الإنجليزي للقرار يعطي وزنا لهذا العامل أكثر مما يعطيه النص الفرنسي .
وبتحاشي محكمة العدل الدولية في هذه القضية تحديد قياس دقيق وقبولها التعريف الجغرافي، تكون قد خلطت في الواقع بين المعيار الذي تهتدي به في المياه التي تعود للدولة الشاطئية ومعيار تحديد أي المضايق يعتبر دوليا .
لقد كان رأي بريطانيا أن الصفة الدولية للمضيق لا ترتبط بحجم المرور فيه، وإنما بكونه يربط بين جزئين من أعالي البحار، وبكونه مفيدا للملاحة الدولية. فقد قدم وكيلها المعلومات التالية عن الملاحة في مضيق كورفو خلال الفترة من فاتح أبريل 1936 إلى غاية 31 دجنبر 1937 : " إن عدد السفن المتوقفة في ميناء كورفو بعد مرورها في المضيق، أو قبل ذلك المرور بلغ تلك الفترة 2884، وان هذه السفن تحمل أعلام اليونان وإيطاليا ورومانيا ويوغوسلافيا وفرنسا وألبانيا وبريطانيا، وان هذا الرقم يمثل السفن التي فتشتها دوائر الجمارك في كورفو وأنه بالتالي لا يشمل كثيرا من السفن التي اجتازت المضيق دون توقف في كورفو، وأن عدد السفن الحربية البريطانية استخدمت المضيق بصورة منتظمة منذ أكثر من تسع ، وأن السفن الحربية لدول أخرى استخدمته كذلك" .
وبناء على هذه الظروف توصلت المحكمة إلى أن القناة الشمالية لكورفو يجب اعتبارها من صنف الممرات المائية الدولية، ولهذه الأسباب لم تقبل المحكمة ادعاء ألبانيا بان حكومة المملكة المتحدة قد انتهكت سيادة ألبانيا بإرسال سفن حربية في المضيق دون إذن سابق من السلطات الألبانية.
وقد نفت ألبانيا عن مضيق كورفو صفة المضيق الدولي الذي يتحقق خلاله حق المرور البريء للسفن الأجنبية، مطالبة بتحديد هذه الصفة بالاعتماد على كون المضيق يربط بين جزئين من البحار العالية ويستخدم لمرور عدد مهم من السفن. وفي القرار الذي أصدرته المحكمة في هذه القضية أخذت لتحديد مقدار استخدام المضيق للملاحة الدولية بمعياري عدد السفن المارة في المضيق وعدد الدول التي ترفع تلك السفن أعلامها.
وقد أثار هذا الحكم العديد من التعليقات من جانب فقهاء القانون الدولي، حيث اختلف كل فريق واتخذ موقفا منه. فقد رأى الأستاذ « شارل دوفيشر Charles de VISSER» أن الحكم على قيمة أي مضيق في الملاحة الدولية إنما يتوقف على أهمية حركة الملاحة الدولية فيه، وبأن المعايير الواردة في قرار محكمة العدل الدولية ليست شاملة جدا، وإنما هناك أربعة عوامل يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لتحديد أهمية المرور البحري في المضيق، وهي :
Ë عدد السفن المستخدمة له.
Ë مجموع حمولتها.
Ë قيمة تلك الحمولة.
Ë وعدد الأعلام التي ترفعها تلك السفن .
ويتجه الأستاذ « اوكونيل O Connell » إلى أنه لا يكفي للحكم على خليج ما بأنه دولي أن يكون موصلا بين بحرين عاليين بل يجب أن ينظر إلى حجم الملاحة الدولية فيه، وبعبارة أخرى لا ينبغي أن نعطي الأهمية للعنصر الجغرافي، بل نعطيها للعنصر الوظيفي .
أما الفقيه الدنمركي « ايريك برول Eric BRUEL » فقد انتقد بشدة قرار محكمة العدل الدولية، معتبرا أن مضيق كورفو ليس مضيقا دوليا وإنما مجرد ممر جانبي بسيط لا ترقى أهميته لتبرير القيود على حقوق الدولة الشاطئية، وان السماح بالـمرور بين جزئين من البحر العالـي غير كاف، وكان من الأولـى حسب رأيه الأخذ بعين الاعتبار الربط بين بحرين مختلفين كالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأدرياتيكي .
ومن الجدير بالذكر أن ألبانيا لم تنازع في كون قناة كورفو الشمالية مضيقا بالمعنى الجغرافي، إلا أنها رفضت اعتبار تلك القناة من صنف الطرق الدولية التي يتقرر فيها حق المرور على أساس أنها ذات أهمية ثانوية وليست ممرا ضروريا من البحر العالي، وهي تستعمل للملاحة المحلية فقط من وإلى موانئ "كورفو" و"سارا ندا".
________________________________________