[right] من كل ذلك نتبين عدم إمكانية الجزم في إيجاد معيار مستقر وثابت يفرق بين ما هو متوقع وبين ما هو غير متوقع. ففي الحالة نفسها التي وجد فيها القضاء معيارا قد يبدو مقنعا، وهو معيار "الاحتمال" في وقوع الحادث، قد بقي الأمر غامضا يصعب الجزم أمامه بطبيعة الأحداث الاحتمالية أو الممكنة، وسبب ذلك هو في صعوبة إيجاد تمييز واضح بين الإمكان والاحتمال من جهة، وللاختلاف الذي يحصل في الغالب في الحالة الواحدة بنتيجة الاختلاف في الظروف المكانية والزمانية للحادث من جهة ثانية.كما أن المقياس لذلك المعيار الذي يبدو فيه الفقه والقضاء قد استقرا حوله ، وهو الشخص المتوسط الذكاء والبصيرة، لا يبدو فيه قد تحرر من بوتقة المقياس الشخصي الذي سبق أن انتقده الفقه، إلا من ناحية واحدة هي تبسيطه لذلك المقياس. فكلاهما يدور في فلك التحليل النفسي وكلاهما يستند إلى عنصر شخصي وتصور يخرج عن اختصاص القضاء ووظيفته، مع الفارق أن المعيار الشخصي البحث يعتمد في تطبيقه على تحليل نفسية المتعاقد ذاته، في حين أن المعيار الثاني يعتمد على دراسة نفس أخرى، هي شخصية الرجل العادي. فهذا المعيار لا يعدو أن يكون إذن شكلا مبسطا للمعيار الأول، فهو بدلا من أن يلجئ القاضي إلى تحليل لنفس المتعاقد يحمله على تحليل نفسية الشخص المعتاد. ولتلافي ذلك الارتباط القائم بين المقياس المعتمد وبين الناحية الشخصية في التحليل تبرز الحاجة إلى إيجاد معيار موضوعي بحث، يتجاهل شخصية أي من المتعاقدين كما يتجاهل شخصية الرجل المتخذ كنموذج للقياس. وللوصول إلى ذلك، لابد من وضع مؤشرات نهتدي من خلالها إلى المعيار المنشود. فيقتضي أولا استبعاد النظرة إلى شخصية أي من المتعاقدين عند البحث في مدى توقعه للحادث ويقتضي ثانيا استبعاد العودة إلى الرجل – النموذج والتوقف عن اعتباره مثالا يلجأ إليه لقياس عنصر التوقع. فالمقياس المطلوب لا يمكن أن نجده إلا بالنظر إلى الحادث بحد ذاته، بمعزل عن الناحية الشخصية – بشكليها المتجدد أو المبسط – بل بالنظر إلى " عادية الحادث" أو عدم "عاديته" بحسب المجرى الطبيعي للأمور. فنعتبر أن الحادث يكون متوقعا عندما يكون عاديا، ويكون غير متوقع عندما لا يكون عاديا . فهذا المعيار الجديد يقوم على عنصرين موضوعين: عنصر الحادث بمجرده، وعنصر العادية المتخذ كمقياس للتوقع كبديل عن المقياس المعتمد، وهو الشخص المعتاد. وبذلك نكون قد تجنبنا البحث فيما تقف عنده النفس البشرية وابتعدنا عن الغوص في غوامضها سواء أكانت تلك النفس تعود إلى أحد المتعاقدين أم إلى شخص معتاد متخذ كنموذج. إذ أنه كما يقول الفقيه الصدة: يقتضي توقع ما هو عادي،وليس علينا أن نتوقع ما هو استثنائي – غير عادي– .
الفقرة الثانية: عدم التوقع: نتائجه
إن الوقوف على شرط عدم التوقع من خلال المعيار الذي وضعه الفقه والاجتهاد لا يكفي بذاته لاكتماله، إذ لابد من أن يستتبع وجوده حصول نتيجتين عمليتين: هما عدم إمكانية تفادي الحادث أو نتيجته، أو عدم إمكانية دفع الحادث أو نتيجته. فالحادث لا يمكنه أن يشكل ظرفا طارئا مفاجئا إلا إذا كان هنالك استحالة في تفاديه أو تخطي نتائجه ، سواء نظرنا إلى الحادث بمجرده أو إلى نتيجته بمجردها.
فمنطق فكرة عدم التوقع يقضي إذن بالا يكون باستطاعة المدين أن يدفع الظرف عن نفسه، وإلا تعرض لخطر عدم الاستفادة من تطبيق النظرية. فإمكانية دفع الحادث حتى ولو استحال توقعه يمنع من تكون الحادث الفجائي الذي هو العصب في الظروف الطارئة .
وعليه فقد يكون الحادث أو النتيجة متوقعة، وفقا للمعيار الذي سبق تحديده، ولا يتولى المدين العمل للحيلولة دون وقوعه، فيكون بذلك قد ارتكب خطأ يبرر مسؤوليته. فالظرف الطارئ أساسا غير متوفر لافتقاره إلى عنصر المفاجأة والحتم، وبالتالي كان على المدين أن يقوم بما يمليه عليه التزامه وهو اتخاذ التدابير الكفيلة لمنع حصول الظرف المتوقع. وعدم تنفيذه لالتزامه وهو اتخاذ التدابير الكفيلة لمنع حصول الظرف المتوقع. وعدم تنفيذه لالتزامه بشكل خطأ يسأل عن نتائجه .
وقد يكون الحادث وفي هذه المرة غير متوقع فتتوافر شروط الظرف الطارئ،إلا أنه مع ذلك قد لا يؤدي ذلك الشرط إلى تطبيق نظرية – إعادة النظر للظروف الطارئة – إذا كان بإمكان المدين تجاوز الحادث أو نتيجة ذلك بالعمل على تجتنبه. فالإضراب ليس بالضرورة أمرا متوقعا. فقد يحصل نتيجة لعمل قام به المدين لا يفضي بحسب طبيعته إلى إحداث الإضراب، ولكن يبقى على رب العمل في هذه الحالة أن يعمل على تجنبه وذلك بالقيام بمفاوضات، أو بدعوة ممثلي العمال للمناقشة إذا كانت البوادر تشير جميعها إلى أن الإضراب غير محتمل الوقوع ولكن ممكنا حصوله. وفي حالة حدوثه يجب على رب العمل أن يعمل على تجنب نتائجه وذلك باتخاذ التدابير الكفيلة بذلك، كدعوة العمال إلى العمل أو تحقيق بعض الشروط المعقولة" ... فقد اعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن عملية الصرف من الخدمة أو إضراب العمال لا تشكل ظرفا طارئا لمجرد وقوعها بل لا بد من أن نبحث في كل حالة على حدة للتأكد من أن المدين الذي يتذرع بذلك لم يكن بإمكانه تجنب الحادث أو توقيفه أو الحد من نتائجه".
وينتج عن ذلك أمران:
الأول: إن إمكانية تجاوز الحادث أو النتيجة التي تجمع في كنهها إمكانية تجنب الظرف الطارئ أو تخطيه من شأنها أن تستبعد نظرية الظروف الطارئة لأنها أخلت بالنتائج المنطقية لشرط عدم التوقع. فعدم التوقع يقوم كما بينا على عنصر المفاجأة والحتم الذي من شأنه أن يشل عمليا حركة المدين،ويعطل عليه كل محاولة أو جهد للعمل على مجابهة ذلك الظرف. فإذا لم يصل ذلك الظرف إلى مرحلة يكون فيها المدين أمام استحالة دفع الحادث بصورة مطلقة سواء في تجنبه أو تخطيه، فإن ذلك يضيع على المدين فرصة الاستفادة من النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة.
والثاني: إن تجاوز الحادث أو النتيجة يفترض كما بينا، بذل الجهد،أي اتخاذ التدابير لتجنب الحادث أو تخطيه. ولذلك لابد من وضع معيار ينظر من خلاله فيما إذا كان قد بذل المدين الجهد المطلوب لتجاوز الظرف أم أخل بالتزاماته بعدم بذله لذلك الجهد. فقد عرضت مسألة وضع معيار لقياس قيام المدين بالتزاماته أم إخلاله بها، عند البحث في شرط الحادث الاستثنائي،وعند البحث في شرط عدم التوقع، حيث تبين أن المعيار الذي يميل إليه الفقه والاجتهاد هو المعيار الموضوعي لا الشخصي، والذي لا يتخذ كأساس له المدين بالذات بل مدينا نموذجيا سمي برب العائلة الصالح . وهنا أيضا لا يقتضي أن ينظر إلى الوضع القائم من زاوية المدين الشخصية ، أو ينظر إلى الوضع القائم من زاوية المدين الشخصية أو أن ينظر إلى المسألة بصورة موضوعية،فنتساءل هل أن أي مدين آخر في مكانه كان سيقع أيضا في استحالة تجاوز الحادث أو نتيجته، فلا يستطيع تجنبه أو تخطيه. والمدين المقصود هو المدين العادي المتوسط الذكاء والحنكة، وذلك بالرجوع إلى النشاط العادي الذي يبذله أو عليه أن يبذله ذلك المدين- النموذج.
وخلاصة القول هي أن شرط عدم التوقع المعتبر كشرط جوهري لتكوين النظرية التي نحن في صددها، وفي تكوين نظريات مشابهة تقوم على الحتم والمفاجأة كنظرية القوة القاهرة، يتطلب لاكتماله، كما بينا، أن يكون أولا محتمل الوقوع، وثانيا لا يمكن تجاوزه بتلافي أو تخطي ذلك الوقوع، وكل ذلك على أساس معايير موضوعية بحتة وضعها الفقه والاجتهاد تتخذ أساسا لها شخص الرجل المتوسط والمعتاد.
الفقرة الثالثة: حـالات عـدم التوقــع
بعد أن بينا في الفقرة السابقة ماهية الظرف غير المتوقع ومفهومه على ضوء الفقه والاجتهاد، يعترضنا تساؤلان: الأول هو في إظهار المقصود بالظرف غير المتوقع، هل هو الحادث بمجرده، أم أنه يشتمل أيضا على أثره ونتيجته، أم أنه يكتفي بتحقق الحادث أو بمعنى نتيجته، للإبقاء على الصفة غير المتوقعة للظرف الطارئ، وهو الشرط المطلوب لتكوين النظرية، والثاني يرتبط أساسا بطبيعة خاصة لشرط عدم التوقع، هل يمكن استبعادها بإرادة الأطراف المتعاقدة ، أم أن ذلك الاستبعاد لا يقتضي إعماله أو مجرد الأخذ به لمخالفته مصالح عليا تفرض المحافظة عليها ولو كان ذلك عن طريق التضحية بالمصالح الخاصة والفردية للمتعاقدين، وهي حالة توقع التغيرات النقدية والتحول في الظروف الاقتصادية العامة عن طريق المحاولة لتلافي نتائجها بوضع بنود واشتراطات عقدية خاصة تعالج ما قد يستجد من تقلبات.
إن عدم التوقع لا يشترط احتواؤه لكل من الظرف ونتيجته،فعدم توقع الظرف بمجرده توقعه مع عدم توقع نتائجه كاف لتطبيق النظرية التي نحن بصددها،كما أن البنود العقدية الموضوعة لتوقي الانخفاضات المتوقعة في سعر العملة أو التقلبات الاقتصادية العامة قد تقضي باعتبارها شرعية مما يفرض الأخذ بمضمونها، وقد تقضي بعكس ذلك فيصار إلى إبطالها، وقد تؤدي إلى إبطال العقد بكامله وذلك بحسب طبيعتها وبحسب خطورتها على المصالح العليا التي تبرر حمايتها كما سنرى.
أ- إذن فما المقصود بالظرف غير المتوقع: الحادث أم النتيجة
إن ما يحملنا على البحث عن المقصود بالظرف غير المتوقع بعد أن بينا المقصود بماهيته هو سببان:
الأول: يتعلق في عمومية ما ينطوي عليه عدم التوقع، إذ أنه يعني أمرين أو أحدهما: الحادث بحد ذاته ونتيجته فقد يكون الحادث متوقعا أو غير متوقع بمعزل عن نتيجته، وقد تكون نتيجته متوقعة أم غير متوقعة بمعزل عن الحادث نفسه.
والثاني: أهمية التمييز بين ذلك الوضعين المشار إليهما الحادث ونتيجته على عكس ما يراه البعض. فالمشرع المصري قد اتخذ موقف الجمع بين الحالتين دون تفرقة بينهما بنص المادة 147 فقرة 2 من القانون المدني لسنة 949، كما أنه قد سبق لبعض رجال الفقه أن اعتمد هذه النتيجة،والسبب في ذلك يعود إلى التحليل القائل بأن توقع الحادث يستتبع معه فرضا توقع كامل نتائجه. فارتفاع الاسعار أثناء الحرب هو من نتائج الحرب نفسها. فالشخص العادي يتوقع مثل ذلك الارتفاع المرافق لحالة الحرب وما قد تفرضه من تشريعات وتدابير من شأنها أن تزيد في الأثمان أو في الأجور عامة. فكل شخص متبصر لحقائق الأمور من شأنه أن يتوقع أي ارتفاع في سعر سلعة معينة سيما أثناء الحرب إذا كانت لم تنته وقائعها. فتوقع الحرب يترك في حقيقته توقع نتائجها .
إن هذا الدمج بين الحادث مجردا، وبين ما قد يترتب عليه من نتائج لا يخلو من عدم الدقة في الواقع. فعدم التوقع لا يقتضي أن ينظر إليه من زاوية الحادث نفسها بل من زاوية نتائجه كذلك. فماذا يهم عند البحث في انطباق النظرية- أن يكون الحادث قد جرى توقعه إذا كانت نتائجه مما لم يصر إلى توقعها.
إن التوقع أو عدمه يفترض لإيضاحه استعراض حالات أربع، ذكرها الأستاذ عبد السلام الترمانيني تكون حسبما يكون فيها الحادث ونتيجته، كلاهما غير متوقع – الحالة الأولى – أو كلاهما متوقعا – الحالة الثانية – أو أن يكون الحادث وحده غير متوقع دون نتيجته التي تبقى متوقعة – الحالة الثالثة -، أو أن يكون الحادث نفسه متوقعا، ولكن نتيجته هذه المرة هي التي بقيت غير متوقعة – الحالة الرابعة –.
في الحالة الأولى: ليس هناك من مشكلة: فالنظرية تطبق تلقائيا طالما أن عدم التوقع هو واحد في كلا الوضعين.
وفي الحالة الثانية: لا مجال لإعمال النظرية طالما أن التوقع موجود في الحالتين: سواء بالنسبة للحادث ذاته أم لنتيجته.
وفي الحالة الثالثة: أيضا لابد من أن تنزل منزلة الحالة السابقة لجهة استبعاد النظرية، إذ أن توقع نتائج معينة يفترض أحد أمرين: إما أن يكون المتعاقد قد أخذها على عاتقه وتقبل تحمل مخاطرها. وإما ـن يكون في وضعية غير المتبصر، وينبغي تحميله لنتائج عدم تبصره، ولو كان الحادث نفسه المسبب لتلك النتيجة، هو نفسه غير متوقع.
أما الحالة الرابعة والأخيرة وهي الأهم، فيبقى مجال النظرية مفتوحا لتطبيقها. فما يهم عند مراجعة العقد للظروف الطارئة هو ليس الحادث مجردا عن نتيجته، بل النتيجة نفسها ولو تجردت عن ظرفها. فالنظرية ما وجدت أساسا كما بينا إلا لمجابهة النتيجة الحاصلة وليس لمواجهة الحادث بذاته ففيضان نهر في أوقات الشتاء الصعبة مثلا هو من الأمور المألوفة والمتوقعة،ولكن ما قد يترتب عليه من نتائج قد تكون متوقعة،كذلك وقد لا تكون في كل مرة تتجاوز فيها لجهة مداها وأثرها ما سبق أن ترتب عليه من نتائج. فما يطلب من المتعاقد هو توقع النتائج العادية التي تحصل بصورة مستمرة، أو بما قد يتجاوزها بقليل، وليس تلك النتائج غير المألوفة التي تقلب اقتصاديات العقد، ولو كان سبب حصولها هو نفسه من الأمور المتوقعة" .
إذن من خلال تلك الحالات التي سبق عرضها هناك حالتان يكون فيهما شرط عدم التوقع متوفرا: الحالة الأولى:عندما يكون الحادث ونتيجته كلاهما غير متوقع. والحالة الثانية: عندما تكون فيها نتيجة الحادث وحدها غير متوقعة رغم أن الحادث نفسه كان متوقعا. مما يستتبع استبعاد الافتراضات الأخرى التي يكون فيها الحادث ونتيجته، أو نتيجته متوقعة. كل ذلك يبين بوضوح الأهمية العملية لذلك الفصل بين الواقعتين: الحادث ونتيجته، خلافا لما قال به أنصار الدمج بينهما .
الفقرة الرابعة: المحاولات العقدية لتوقي الحادث ونتيجته
"إن الأزمات الاقتصادية المتوالية التي بدأت بوادرها تتكون منذ مطلع هذا القرن، قد تولد عنها عمليا نتيجتا ن الأولى موضوعية وعامة، تقوم على التأكيد على مبدأ يحاول الاقتصاديون تلافي حصوله، وهو مبدأ عدم الاستقرار الذي يسيطر على الحياة الاقتصادية عامة، والنقدية خاصة، والثانية نفسية وخاصة تتمثل في انعدام الثقة عند الأفراد في إمكانية حصول مثل ذلك الاستقرار أو الثبات الذي لابد من أن يترك انعكاسات هامة على صعيد التعامل.
ولعل الضحية الأولى لمبدأ التقلب الاقتصادي وعدم استقراره، هو من الوجهة القانونية مؤسسة التعاقد، وخاصة العقود التي يفصل بين تاريخ انعقادها وتاريخ تنفيذها فترة زمنية معينة. فالثابت أن جميع العقود يدخل الزمن في تكوينها، سواء كعنصر جوهري من عناصره (كعقد المدة) أو كعنصر عرضي (كالعقود الفورية المؤجلة)، والتي هي عرضة لتأثيرات خارجية مستمرة من ارتفاع في الأسعار أو انخفاض ذريع في قيمة العملة وقدرتها الشرائية، مما قد يولد نتائج شاذة وخارجة عن المألوف تصيب التعاقد،وتكون سببا هاما في فقدان الأمان العقدي والاستقرار المطلوب على الصعيد القانوني.
إن الشك الذي تخلفه الأوضاع الاقتصادية غير الثابتة، والتخوف من اصطدام المتعاقد بظروف طارئة تخل بصورة فادحة في التوازن العقدي الذي يقصده من تعاقده، قد دفعت به إلى البحث عن وسائل فنية تمكنه من مجابهة تلك الظروف والأوضاع حال حصولها، وقد تم التوصل فعلا إلى خلق بنود وطرق اتفاقية تهدف أولا إلى توقي النتائج المحتملة التي قد تترتب على تلك التقلبات،وثانيا المحافظة على التوازن العقدي من أي خلل قد يصيبه،وبخاصة من الظروف الاقتصادية والطارئة" .
المبحث الثاني: الظـروف الاستثنائـــي
إن الظرف لا يكفي بحسب النزعة التقليدية لكي يكون ظرفا طارئا أن يكون غير متوقع فقط، بل لابد من أن يتصف أيضا بصفة " الاستثنائية". فعدم ارتقاب الحادث إذا ما أضيف إليه عنصر الاستثناء يجعل من الظرف، الظرف الطارئ المقصود لإعادة النظر في العقود بصورة عامة.
لقد وضحت في المبحث الأول المفهوم القانوني لعدم التوقع، ولابد من أن نبحث في هذا المبحث استكمالا لشروط الظرف الطارئ في عنصر الاستثناء المكون له.
إن الاستثناء بحسب طبيعته هو في أن يكون الظرف غير عادي، أي أن يخرج عن الحالات العامة المعروفة،و بعبارة أخرى أن يكون من حيث وقوعه ونتائجه غير مألوف،و نادر الوقوع. وعدم ألفة الظرف وندرته تكون في مرحلتين: الأولى هي مرحلة الظرف نفسه، منظورا إليه لذاته، والثانية هي مرحلة نتيجته، منظورا إليه من حيث تأثيره في التعاقد .
في المرحلة الأولى يكون الظرف استثنائيا كلما كان في وقوعه أو في مدى وقوعه خارجا عن حالاته العادية العامة، كهطول مطر قوى في وقت لا تمطر فيه السماء في العادة، أو هبوب عاصفة قوية تخرج في حدودها عن حدود المألوف في الغالب... وفي المرحلة الثانية، يكون الظرف استثنائيا كلما كانت نتائجه خارقة، أدت إلى قلب اقتصاديات العقد، وأخلت بالتوازن العقدي إخلالا غير مألوف في التعامل العادي .
المطلب الأول: مفهوم الظرف الاستثنائي
إن مختلف التشريعات التي كرست نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة بنصوص صريحة لم تحدد ماهية الاستثناء في الحادث. فإذا استثنينا القانون البولوني الذي أعطى في المادة 267 من القانون المدني بعض الأمثلة على أحداث تعتبر استثنائية كالحروب والأوبئة وهلاك المحصول هلاكا كليا، فإن بقية التشريعات قد اكتفت بذكر ماهية الحادث الذي يشكل الظرف الطارئ المقصود، وهو كونه استثنائيا دون أن تضيف إلى ذلك أي مقياس أو معيار يؤهل إلى التوصل إلى ما أرادته بذكرها لعنصر الاستثناء. ومن هنا برزت مهمة الفقه والاجتهاد في البحث عن ذلك المعيار يستند إليه للدلالة على الحادث الاستثنائي الذي ينطوي عليه الظرف الطارئ المكون لإعادة النظر في العقود. كما برزت أيضا في تحديد ماهية ذلك الظرف وطبيعته .
أ- طبيعة الظرف الاستثنائي:
إن المعيار الذي يبدو ماثلا من خلال الأعمال الفقهية أو في قرارات القضاء، هو معيار " الندرة" في وقوع الحادث لاعتباره استثنائيا، ويتحدد ذلك المعيار على أساس موضوعي.... ولتحديد طبيعة الظرف الاستثنائي يشير الأستاذ السنهوري إلى مجموعة من الأحداث المختلفة هي بنظره استثنائية كالزلزال أو الوباء أو الحرب،أو قيام تسعيرة رسمية أو إلغاؤها،أو ارتفاع باهظ في الأسعار أو نزول فاحش فيها. والقضاء المغربي قد اعتبر كذلك بأن " وجود طبقة صخرية متلاصقة غير منظورة وجسيمة جدا يستحيل إزالتها دون متفجرات " تشكل الظرف الاستثنائي المطلوب لتكوين نظرية " الحدث غير المتوقع". ولكن هطول المطر في فصل الشتاء. أو حصول الفيضان ،و صدور القرار الذي حد من كمية الاستيراد هي بنظرها من الأمور المألوفة والعادية. إلا أن تلك الحالات قد تصبح استثنائية إذا تخطت تلك الحدود الطبيعة المعروفة،فغزارة المياه وعدم ترقبها، وتجاوز الفيضان حده المألوف في العادة، وتخطي القرار الإداري بنتائجه ما هو متعارف عليه تشكل أحداثا استثنائية تبرر مساعدة المتعاقد الذي أثرت تلك الأحداث في تعاقده. وقد يكون الحادث مألوفا بذاته ولكنه يتجاوز في نتائجه حيز المألوف، كفيضان كبيرإلى درجة يندر وقوعها فلا يفقد رغم ذلك عنصر الندرة والاستثناء" .
فمعيار الاستثناء كما يبدو من خلال العمل الفقهي والتطبيق القضائي هو إذن معيار "الندرة" في وقوع الحادث بذاته. والمقصود بعامل الندرة كما برز في تلك الأعمال والتطبيقات هو ألا يكون الحادث في وقوعه مألوفا أو عاديا، بل يكفي أن يكون شاذا عن المألوف سواء بحصوله أو بالنتيجة التي يخلفها .
من هنا يتحدد الاختلاف بين معيار الندرة في تحديد شرط الاستثناء وبين معيار " الاحتمال" المعتمد في تحديد شرط عدم التوقع. فالأول ينظر إليه بصورة موضوعية على ضوء الحادث ذاته أو مداه، فيؤدي إلى التساؤل عن مدى تكرار حصوله وعن المدى الذي تصل إليه آثاره في حال حصوله. فإذا كان الحادث معتادا ومألوفا في وقوعه أو أثره، فقد فيه عنصر الندرة والمفاجأة. والثاني ينظر إليه بصورة موضوعية كذلك ولكن على ضوء مقياس الرجل العادي المتخذ كنموذج في حساب الاحتمال أو عدمه، فيؤدي إلى التساؤل عن مدى ما يتوقعه الرجل المتوسط الذكاء والبصيرة في الظروف الخارجية التي وجد فيها المدين المتعاقد، ليتحدد بعد ذلك اكتمال شرط عدم التوقع أو عدم اكتماله .
في الحالة الأولى إذن تبحث المسألة من زاوية "عادية" الحادث أو "استثنائيته" بمعزل عن مقياس – نموذج يتخذ أساسا للتقدير، وبذلك يتفق معيار "الندرة" مع المعيار الذي سبق أن أشرنا إليه لقياس عنصر الاحتمال في شرط عدم التوقع،ويتجنب بالتالي عيوب المقياس المعتمد فقها وقضاء: مقياس الرجل المتوسط .
ب- تحديد الظرف الاستثنائي
لقياس معيار الندرة كما بيناه، لابد من الرجوع إلى علاقة موضوعية لا شخصية، فنرد الحادث إلى إطار زمني ومكاني معين، لنبحث على ضوئه في عنصر الندرة، سواء بالنسبة للحادث نفسه أو بالنسبة إلى نتائجه. فمن الظروف ما هي استثنائية في مكان وزمان معينين، ومنها ما هي عادية في مكان وزمان آخرين. بل إن من الظروف ما هي غير مألوفة في مكان وزمان معينين ولكنها مألوفة في نفس المكان ولكن في زمان آخر. فالفيضانات مثلا، قد تكون معروفة في زمن معين وفي بلد معين، ولكنها قد لا تكون كذلك في بلد آخر وفي زمان آخر، فلا يسع المتضرر من الفيضان في الحالة الأولى أن يطلب إشراك الدائن في تحمل نتيجة الظرف الطارئ ، إذ أن ذلك الظرف يفتقد عنصرا جوهريا يدخل في تكوينه، وهو عنصر المفاجأة والندرة، في حين أنه يبقى محقا في مطالبته في الحالة الثانية لتوفر ذلك العنصر الذي افتقد في الحالة الأولى .
فالمسالة إذن مسألة واقع، يعود أمر تقديرها لقضاة الأساس، يسترشدون لذلك بمعايير موضوعية مختلفة: زمانية ومكانية وواقعية.
وليس المهم مصدر الحادث،فقد يكون حادثا طبيعيا أو اقتصاديا أو إداريا أو تشريعيا، إنما المهم أن يكون ذلك الحادث مهما كانت طبيعته استثنائيا. فقد يكون الفعل بحد ذاته غير مألوف و نادر الوقوع ويشكل ظرفا غير متوقع،وقد يكون كما بينا مألوفا، ولكن موضوعه أو نتيجته غير مألوفة، فليس هناك ما يمنع في هذه الحالة الأخيرة من تطبيق النظرية مهما كان منشأ الحادث أو ماهيته .
فالتمييز الذي كان يثار بين أعباء مصدرها ظروف اقتصادية وأعباء مردها إلى عوامل إدارية لتطبيق النظرية على الحالة الأولى وحدها لم تعد موجودة، والاجتهاد بدوره قد تجاهلها.
فذلك التفريق إذا كان قد قبل به في مرحلة الحرية الاقتصادية المطلقة، يبدو لا أساس له في وقت أصبحت فيه سلطات الدولة متداخلة فيما بينها وفي حياة الأفراد، تتدخل بواسطتها في مختلف النشاطات، توجهها بدافع المصلحة العامة والمحافظة على مصالح المجتمع، بحيث أن الاختلال الاقتصادي في العقود قد يكون في منشئه ناتجا في الغالب عن تلك الحالات من تدخل الدولة " في تلك النشاطات. ولكن السؤال الذي يطرح الآن هو أنه إذا كان من المتفق عليه فقها واجتهادا، ألا اختلاف بين حادث وحادث من حيث مصدره، طالما اجتمعت فيه شروط النظرية .
فهل التدابير التي تتخذها السلطة من ضمن حدود اختصاصها الذي تمارسه بصورة مستمرة، يبقى داخلا في نطاق الحوادث الاستثنائية التي تتطلبها النظرية لتكوينها؟
إن الذي يحمل على هذا التساؤل هو أن السلطة وخاصة في هذه المرحلة الجديدة من حياتها تمارس اختصاصاتها التشريعية والإدارية، وفي شتى المجالات، بصورة مستمرة حتى أصبحت تلك التدابير أمورا عادية ومألوفة متعارف عليها، مما يفقد معها عنصر "الاستثنائية" التي يقوم عليها الحادث الطارئ صفة الندرة وعامل المفاجأة، فهل يبقى بالتالي من مجال للقول بوجود عمل تشريعي أو إداري مشكل للظرف الاستثنائي المقصود؟
هناك رأيان متقابلان: رأي أ ول يرفض إعطاء تلك الأعمال التي أصبحت مألوفة أية صبغة طارئة. ورأي ثان أكثر واقعية يميز بين حالة وحالة ولا يتخذ موقفا مبدئيا تجاه هذه الناحية الدقيقة.
يقول الأستاذ عرفه في هذا الصدد : "إن التشريع لا يمكن وصفه بالاستثناء". ويؤيد الأستاذ حنفي غالي هذا الموقف: فقانون الإصلاح الزراعي بنظره لا يعتبر حدثا استثنائيا لكونه قانونا .
إن هذا الرأي على ما يبدو، وكما يقول الأستاذ مصطفى الجمال : "إنما يستند في أساسه على موقف قضائي قديم سبق أن اتخذته المحاكم الفرنسية، يرفض اعتبار القانون أو القرارات الإدارية في مصاف الأحداث المفاجئة والنادرة، وسبب ذلك أنها تدخل في اختصاص السلطة العامة الذي كرسه الدستور والقوانين المعمول بها. بل إن السلطة لا يمكنها إلا أن تمارس هذا النشاط الشرعي والمفروض. فقد اعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن قانون 13 أكتوبر سنة 1856 الصادر في فرنسا لا يشكل حادثا استثنائيا غير متوقع، إذ أنه تدبير شرعي اتخذته السلطة في حدود صلاحيتها" .
إلا أن ذلك الموقف المعتمد ما لبث أن تبدل. "فالقانون أو القرار الإداري وإن كان مألوفا إلا أنه ليس هناك ما يحول دون اعتباره في بعض الحالات وبحسب الظروف استثنائيا غير مألوف. فإذا كانت السلطة تملك حق التشريع، لكنها لا تملك هذا الحق إلا في الحدود التي يرسمها لها الدستور والقوانين المرعية الإجراء. ولكن ليس هناك ما يمنع السلطة من أن تتوسع في ممارسة اختصاصاتها فتتعدى الحدود المألوفة إلى مجالات لم يكن التدخل فيها في السابق معروفا،ذلك إما عن طريق تعديل دستورها،أو عن طريق التغيير في أنظمتها عن طريق ثورة اجتماعية مثلا ،و أن تتخذ بعد ذلك تدابير لم تكن متصورة أو مألوفة فليس ما يمنع عند ذلك من اعتبار التدبير المتخذ استثنائيا طالما توفرت فيه صفة الندرة والمفاجأة" . فقد اعتبرت المحاكم المصرية بأن الحركة التي قام بها الجيش هي من أهم الحوادث الاستثنائية العامة التي لم يكن في الوسع توقعها،وبالتالي فإن قانون الإصلاح الزراعي الصادر غداة الثورة يعتبر أيضا حدثا استثنائيا يؤهل تطبيق النظرية على عقد أبرم قبل صدوره"،كما أن المحاكم الفرنسية كانت قد سارت في هذا الاتجاه بقرارات متعددة .
فالقرارات القاضية بمصادرة مال من الأموال تكون في بعض الحالات استثنائية لا يمكن توقعها أو دفعها، وبالتالي رفضت اعتبار الناقل مسؤولا عن تلك المصادرة كما أنها رفضت في قرار آخر إعلان أي خطأ في جانب المصرف لتسليمه إلى السلطات المحتلة سبائك ذهبية موجودة في إحدى خزائنه تعود لزبون لهذا المصرف بحجة أنه لم يتخذ الاحتياطات لتوقي المصادرات التي تكون مألوفة ومتوقعة. وكان قد سبق لها أن اعتبرت أن قرارات المصادرة للقمح أو الطحين في مدينة محاصرة يشكل فعلا استثنائيا، وكذلك القرار الذي يمنع استيرادها .
إن هذا الموقف يبدو في واقعه سليما يتفق مع الغرض الذي تسعى إليه نظرية إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة، وهو التخفيف من الضغط الذي يقع على المدين من جراء الصعوبات التي يولدها الظرف الطارئ بإيجاد تعاون بينه وبين الدائن، هدفه تخطي تلك الصعوبة ومجابهة الخطر الذي يهدده. فارتفاع الأسعار وما ينشأ عنها من عواقب تشكل بذاتها ظرفا طارئا رغم أن ذلك الارتفاع قد يعود بمصدره إما لصدور قانون يخفض من قيمة العملةأو بفرض ضريبة جديدة،أو يعود لظروف الحرب كظروف طبيعية خفضت من نسبة العرض وزادت في نسبة الطلب. فلا شيء يمنع من تطبيق النظرية في أي من هذه الحالات. إذ ما هو غير مفهوم هو حصر النظرية في الحالة الثانية دون الحالة الأولى طالما أنه في الحالتين هناك اختلال في التوازن الاقتصادي بفعل ذلك الظرف دون الالتفات إلى مصدره وطبيعته .
ج- معيار الظرف الاستثنائي
لقد تبينا أن الظرف الاستثنائي هو الظرف الذي يندر وقوعه أو يخرج في وقوعه من الحدود المألوفة،ولكن هل ذلك يعني أن أي ظرف يتوفر فيه عنصر الندرة والمفاجأة هو بذاته كاف لأعمال النظرية – إعادة النظر في العقود للظروف الطارئة – أم لابد من توفر عنصر آخر يشترط وجوده لتكوينها؟
هناك اتجاهان: الأول يفترض العمومية في الظرف الاستثنائي المحرك للنظرية، والثاني يكتفي بحصول الظرف الاستثنائي ولو كان خاصا أصاب المدين بذاته لاكتمالها.
1- الاتجاه الأول: الظرف العام
يقول الأستاذ الكوراني في معرض بحثه في طبيعة الظرف الاستثنائي الذي تتطلبه الظروف الطارئة: " ينبغي أن يتصف الحادث بشيء من العمومية في آثاره، فيتحملها كثرة من الأشخاص لا رابطة قانونية فيما بينهم تتعلق بذلك الحادث"، ويقول الأستاذ بيارنيه في تعليقه على قرار المحكمة الإدارية في كان " أن الظروف الطارئة لا تنطبق إلا في الحالة التي يكون فيها التدبير الذي يتمتع بصفة العمومية، ويقصد بذلك خاصة الحدث الذي يصيب مجموعة من المشاريع من طبيعة واحدة والقائمة على مدى إقليم محدد" .
فكلا الرأيين كما يتضح يركز على عنصر العمومية كشرط إضافي وضروري تفترضه الظروف الطارئة لتخويل القضاء حق التدخل في العقود بتعديل محتواها. ولكنهما يختلفان لجهة المحل الذي ينبغي أن يكون عاما. فالأول يرى أن صفة العمومية لابد من أن تصيب الحادث في آثارهeffets ،والثاني يركز على اتصاف الحادث ذاته بتلك الصفةévénements والمراد بإضافة هذا الوصف هو أن الحوادث الاستثنائية التي تشترطها الظروف الطارئة يقتضي ألا تكون خاصة بالمدين وحده، "بل يجب أن تكون عامة شاملة لطائفة من الناس كفيضان كبيرغير منتظر يكون قد أغرق مساحة من الأرض أو أدى إلى انتشار وباء...." . وبعض الأحداث قد تكون بطبيعتها عامة لا يتصور إصابتها لشخص معين كالارتفاع غير المنتظر في أسعار السلع،تعرض للاختلال كافة العقود أو على الأقل فئة معينة منها. والبعض الآخر يعتبر عاما " لشمول أثره عددا كبيرا من الناس كأهل بلد أو إقليم معين، أو طائفة معينة منهم كالزرع في جهة ما، أو منتجي سلعة بذاتها أو المتاجرين فيها....". ولا يشترط أن يعمم ذلك الأثر جميع البلاد" .
إذن يستبعد من إطار الظرف الطارئ الحادث الخاص الذي يصيب المدين وحده ولو كان استثنائيا، وهو ما يميز بحسب هذا الاتجاه نظرية إعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة عن نظرية القوة القاهرة التي تؤدي إلى انفساخ العقد بقوة القانون .
2- الاتجاه الثاني: الظرف الخاص
ينتقد أصحاب هذا الاتجاه اشتراط العمومية في الحادث الاستثنائي لأنه يتعارض مع الغاية التي شرعت من أجلها نظرية التعديل القضائي للعقد بفعل الظروف الطارئة: " فغاية النظرية تحقيق مبدإ العدالة الذي يقضي برفع الإٍرهاق عن المدين. فهي إذن خاصة بالمدين المرهق، فإذا تقيد الحادث الاستثنائي بشرط العموم امتنع تحقيق العدالة في حالات كثيرة قد لا يكون الحادث الاستثنائي فيها عاما، وبذلك يضمحل شأن النظرية وتفقد كثيرا من معناها". فالظرف الاستثنائي بحسب هذه النظرة هو المطلوب في النظرية سواء كان ظرفا عاما أو خاصا. بل إن هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك فيقيم تمييزا بين الظرف العام كالانخفاض في سعر العملة،وبين الظرف الخاص الذي يصيب المدين بذاته، ليرفض بالنتيجة إمكانية التعديل القضائي للعقد في الحالة الأولى، لأن المسألة تخرج عن اختصاصه وتدخل في إطار الوظيفة الموضوعية للمشرع. " فإعادة النظر لا تكون مقبولة، وقانون العقد يبقى قائما إذا كان الاختلال في الواجبات العقدية يصدر ليس عن ظرف خاص يصيب المدين،ولكن عن ظرف عام تعرض له سكان إقليم معين كالانخفاض في سعر النقد مثلا. وفي غير هذه الحالة وعند وقوع الغبن على فئة معينة من المدينين، فإنه يعود للمشرع واجب التدخل لرفع الظلم وإعادة التوازن" .
من استعراض هذين الرأيين يتضح بأن الغرض من تقييد الاستثنائية في الظرف الطارئ باشتراط "العمومية" فيه، أو بحصر التعديل القضائي للعقد بحدوث ظرف خاص بالمدين دون الظرف العام هو محاولة التضييق من المجال العملي للنظرية، والمحافظة بقدر على الثقة في التعامل" بعدم زعزعة القوة الملزمة للعقد ، ولكنه هل تلك المحاولة لها ما يبررها من الناحية القانونية، وهل تحد من خطورة النظرية، فيكون وجودها ضروريا لحفظ الثقة والثبات في التعاقد؟
إن النظرة إلى مؤسسة إعادة النظر في العقود التي اختل توازنها بفعل الظروف الطارئة تظهر أن المذهب التضييقي لا يتفق أساسا مع جوهر النظرية وأهدافها، كما أنه لا يحقق الأغراض المبتغاة من إيجاده، فالنظرية ما وضعت إلا لتلافي النتائج المرهقة والشاذة التي تخلفها أحداث خارجية على المحتوى العقدي دون البحث في طبيعة تلك الأحداث عامة أو خاصة، إذ يكفي أن تشتمل على عنصر الاستثناء والندرة دون خطأ قد ينسب إلى المدين في عدم احتمالها أو تجاوزها، لتبرر التدخل في العقد الذي أخلت بتوازنه. فما يهم هو وقوع الحادث الاستثنائي سواء بذاته أو بنتيجته، ولا يهم بعد ذلك أن يكون الحادث قد شمل طائفة من الناس أو مدينا على وجه التحديد. بل إن إعادة التوازن العقدي الذي أخلت به الظروف الطارئة قد يكون أكثر إلحاحا في هذه الحالة منه من الحالة الأولى.
أما التخوف المثار حول ما قد تخلفه إطلاقية الظروف الطارئة من آثار تهدد التعاقد، فهو تخوف في غير محله بدليل أن نظريات أخرى تتفق مع النظرية التي نحن في صددها لجهة المحرك إلى تطبيقها – وهو الظرف الاستثنائي – كالقوة القاهرة مثلا، لم تميز بين حادث عام وآخر خاص ، ومع ذلك عمل بها دون أن يؤدي تطبيقها إلى "زعزعة" الثقة أو تهديد التعامل، رغم أنها تبدو أكثر خطورة على مؤسسة العقد من النظرية لجهة ما يترتب عليها من نتائج .
إن إقامة التمييز في الطبيعة القانونية بين الظرف الاستثنائي المكون للقوة القاهرة، وبين الظرف الاستثنائي المكون للظروف الطارئة هو تمييز مصطنع. ومن هنا انصراف معظم القوانين التي كرست النظرية بنصوص صريحة عن اعتمادها كالقانون البولوني والإيطالي واليوناني مثلا.
المبحث الثالث: الإرهاق والخسارة الفادحة
لقد بينا في الفقرة السابقة ما قصدته النزعة التقليدية بشروط استثنائية الحادث لمجرده بمعزل عن تأثيراته في التعاقد في معرض تعريفها للظرف الطارئ محل إعادة النظر في العقود،ولابد في هذه الفقرة من أن نبين الوجه الآخر لعنصر الاستثنائية – وهو الأهم – الذي يتناول العقد بذاته، فيؤثر في عناصره ويقلب اقتصادياته، فيكون الموجه للمشرع والقضاء في تعديل العقد والتخفيف من ذلك الأثر.
إن المعيار الذي اعتمده الفقه والاجتهاد لتحديد الظرف الاستثنائي المجرد عن نتائجه العقدية هو معيار ندرة ذلك الظرف وخروجه عن حيز المألوف كما بينا. وهذا المعيار هو نفسه المعتمد، ولكن بشكل آخر في تحديد تلك النتائج المترتبة على ذلك الظرف. فخروجها عن المألوف عادة في التعامل هو الذي يحدد ذلك الوجه الآخر للظرف الاستثنائي، وهو أثره غير العادي على التعاقد .
وبالفعل فإن التعاقد، أي تعاقد يحمل في طياته الربح أو الخسارة،والمتعاقد كما أن له الحق بالاستفادة من ذلك الربح عليه أن يتحمل مقابل تلك الخسارة لأنها من الأمور الطبيعية التي تفترضها الاتفاقات . فاختلال التوازن العقدي لمصحة فريق دون آخر في أي من العقود هو من الأمور التي باتت مألوفة وعادية. ولكن الذي نقصده بذلك الاختلال في التوازن العقدي الذي يتحمله أحد المتعاقدين دون ألآخر هو ذلك الاختلال الذي يتولد عنه في الغالب عبء مألوف لا يحق لمن تحمله أن يطالب إشراك المتعاقد الآخر في تحمله. أما إذا تجاوز ذلك العبء الناشئ عن ذلك الاختلال ما هو مألوف في العادة أو التعامل، فيهدد المدين بخسارة فادحة وبخطر العجز والتوقف – وهو ما يسميه الفقهاء "بإرهاق المدين" – فإنه يضحى ظرفا استثنائيا لجهة نتيجته، يبرر مطالبة المدين المرهق لدائنه بتحمل جزء من العبء المترتب بمعزل عن إرادته. فإعادة النظر في العقود بسبب الظروف الطارئة ما وضعت إلا لمجابهة هذه الوضعية غير الطبيعية التي قد يخلفها التعاقد. فهي إذن " كصمام الأمان"، تقف في مواجهة الإسراف في التطبيق العملي لبعض المبادئ العقدية التي تجد مصدرها في مبدإ سلطان الإرادة ، وأهمها قاعدة القوة الإلزامية للعقود وما يترتب عليها نظريا على الأقل، من ضرورة إعمال العقد مهما جد عليه من ظروف وأحداث طالما أنها لم تصل في مداها إلى الحد الذي يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا بصورة مطلقة. إذ المدين على ضوء الظروف العادية يتحمل العبء العادي وحده، ولكن عليه أن يتحمل الإرهاق والخسارة غير العادية،فذلك ضرب من ضروب الظلم بفرض مساعدته عن طريق رد التزامه المرهق إلى حده المعقول بإعادة النظر في تعاقده. ولكن