[right]وفي مقابلة مع الدكتور محي الدين كحالة أكد أن أقل مدة للحمل يمكن أن يولد فيها المولود تام الخلقة هي ستة أشهر ( ). كما أكد الدكتور أحمد ترعاني ذلك، وأضاف أن الطفل يحتاج إلى حاضنة خاصة لكي يتمكن من العيش بعد إذن الله ( ).
تفاوتت آراء الفقهاء في أكثر مدة الحمل، التي يمكن أن يستمر معها الحمل إلى أن يولد حيًا على أقوال عدة:
القول الأول: إنه قد يستمر إلى أربع سنين. وهو قول الشافعي والحنابلة في ظاهر مذهبهم ورواية عن مالك ( ).
القول الثاني: إن أقصى الحمل سنتان. وهو مذهب الحنفية، والمزني من الشافعية ( ).
القول الثالث: إن أقصى مدة الحمل تسعة أشهر. وهذا رأي ابن حزم والظاهرية ( ).
الأدلة:
استدل القائلون بأن أكثر الحمل أربع سنين بما يلي:
1- أن كل ما احتاج إلى تقدير حد إذا لم يتقدر بشرع ولا لغة. كان مقداره بالعرف الوجود، كالحيض والنفاس وقد وجد مرارًا حمل وضع لأربع سنين ( ).
وروي المبارك بن مجاهد قال مشهور عندنا، كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل، وتضع في أربع سنين، فكانت تسمى حاملة الفيل ( ).
وأما الأحناف والمزني فاستدلوا بما يلي:
قول عائشة : "لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين، ولو بفركة مغزل". وذلك لا يعرف إلا توقيفًا إذ ليس للعقل فيه مجال، فكأنها روته عن النبي " ( ).
دليل ابن حزم:
يقول ابن حزم: "ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر، ولا أقل من ستة أشهر، لقول الله تعالى: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً﴾ [الاحقاف: من الآية15] وقال تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: من الآية233] فمن ادعى أن حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهرًأن فقد قال الباطل والمحال ورد كلام الله عز وجل جهارًا ( ).
المناقشة:
أما استدلال الحنفية بقول عائشة، فأجاب عنه ابن حزم بأن في إسناده عن عائشة، جميلة بنت سعد، مجهولة لا يدري من هي، فبطل هذا القول ( ).
رأي الطب:
يؤكد الدكتور محمد علي البار أن الحمل قد يتأخر على الرغم من ضبط الحساب إلى شهر كامل. وغلا لمات الجنين في بطن أمه.. ويعتبر الطب ما زاد عن ذلك نتيجة خطأ في الحساب ( ).
كما يؤكد الدكتور أحمد ترعاني. اختصاصي النسائية والتوليد. أن الحمل قد يصل إلى عشرة شهور، ولا يزيد على ذلك؛ لأن المشيمة التي تغذي الجنين تصاب بالشيخوخة بعد الشهر التاسع، وتقل كمية الأوكسجين والغذاء المارين من المشيمة إلى الجنين فيموت الجنين ( ).
كما يؤكد الدكتور محي الدين كحالة ( ) – اختصاصي النسائية والتوليد – حقيقة أن الحمل عشرة أشهر في أقصى مدة يستمر إليها، بل إن الأطباء يولّدون المرأة الحامل بالطرق الاصطناعية بعد تجاوز الحمل أسبوعين عن التسعة أشهر، لوصول الجنين إلى مرحلة الخطر.
كما أن المرأة قد تنقطع عنها الدورة الشهرية لأسباب عديدة، منها ما هو فسيولوجي أو صحي، من ذلك اضطراب الحالة النفسية عند بعض المصابات بأعصاب القلق ونحوه ( ).
ومن ذلك أيضًا الحمل الكاذب، فإن المرأة تحس بجميع أعراض الحمل، ولكن يتبين بالكشف الطبي أنه حمل كاذب، فتعاني المرأة من انقطاع الحيض، كما تحس المرأة، وكأن هناك حركة جنين في بطنها، وهي في الحقيقة ليست إلا حركة الأمعاء داخل المبيض.
وقد يحدث لإحدى هؤلاء الواهمات بالحمل الكاذب الذي تتصور أنه بقي في بطنها سنينًا. قد يحدث أن تحمل فعلاً، فتضع طفلاً في فترة حمله، ولكنها نتيجة وهمها وإيهامها من حولها من قبل، تتصور أنها قد حملته لمدة ثلاث أو أربع سنوات ( ).
الراجح:
بعد استعراض آراء الفقهاء، ووضوح أن مستندها الواقع، والذي قد تبين من خلال كلام الأطباء المحدثين أن غير دقيق، بل هو وهم ناتج عن أسباب عديدة فسيولوجية أو صحية، كالرضاع أو الحمل الكاذب، يتبين أن أقصى مدة يمكن أن يستمر إليها الحمل هي عشرة أشهر. وهذا قريب من كلام ابن حزم ومن قال برأيه من فقهائنا السابقين.
قال الدكتور محمد علي البار: "وينبغي أن ينبه من يدرسون في كتب الفقه على استحالة حدوثي هذا الحمل الطويل الممتد سنينًا، وأنه نتيجة لوهم الأم الراغبة في الإنجاب في أغلب الحالات، أو من اختراع القصاص وأساطيرهم والمشكلة أن المرأة قد تلد بعد وفاة زوجها، أو بعد طلاقها منه بعدة سنوات، فيحكم لها الفقهاء بأن الولد للفراش، وينسبون الولد لزوجها المتوفي عنها بعد سنوات، أو الذي طلقها قبل عدة سنوات" ( ).
قال الدكتور عمر الأشقر: "وقد بالغ القانون في الاحتياط مستندًا إلى بعض الآراء الفقهية بجانب الرأي العلمي، فجعل أقصى مدة الحمل سنة" ( ).
ويرى الباحث أن تحلف المرأة الحامل اليمين في حالة إثبات النسب للزوج المتوفي أو المطلّق، إذا تجاوزت مدة الحمل عشرة أشهر إلى السنة؛ لأن ذلك من الحالات النادرة، والتي يشك الطب في وقوعها ما لم يكن متابعًا للحمل من بدايته، ولذلك يجب الاحتياط في إثبات النسب للمتوفي أو المطلّق بيمين الزوجة، والله أعلم.
المطلب الثاني: شروط انتهاء العدة بوضع الحمل لانتهاء العدة بوضع الحمل شرطان:
الشرط الأول: أن يكون الحمل منسوبًا إلى صاحب العدة. إما ظاهرًا وإما احتمالاً، كابن الملاعنة، ولو لم يستلحقه، كما إذا لاعنها ولم تلاعنه ومات أو طلقها. وقد اشترط هذا الشرط الأئمة الأربعة ( ).
الشرط الثاني: وضع جميع الحمل. وذلك باتفاق الأئمة الأربعة؛ أن الحمل اسم لجميع ما في البطن ( )؛ ولأن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل، فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة ( ).
الحمل الذي تنقضي العدة بوضعه:
وأما الحمل الذي تنقضي العدة بوضعه فله تفصيل عند الفقهاء:
أ-يرى الحنفية أن المراد الذي تنقضي عدة الحامل بوضعه هو ما استبان بعض خلقه أو كله، فإن لم يستبن بعضه لم تنقض العدة؛ لأنه إذا استبان فإنه ولد، وإذا لم يستبن جاز أن يكون ولدًا وغير ولد، فلا تنقضي العدة بالشك ( ).
ب- ويرى المالكية أن الحامل إذا وضعت علقة أو مضغة فقد حلت وانقضت عدتها ( ).
ج-أما الشافعية والحنابلة ( ): فتنقضي العدة عندهم بانفصال الولد حيًا أو ميتًا، ولا تنقضي بإسقاط العلقة والدم؛ لأنها لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمي أو لا، ولا يتعلق به شيء من الأحكام؛ لأنه لم يثبت أنه ولد، لا بالمشاهدة ولا بالبينة.
الراجح:
الذي يظهر من خلال استعراض آراء المذاهب المختلفة، أن مدار الحكم في انتهاء العدة بوضع الحمل، مبني على تبين الولد من عدمه. سواء كان ذلك من خلال الفحص الطبي وهو البينة، أو المشاهدة من القوابل أو الأطباء. فإذا لم تقم المرأة بالفحص الطبي، فإنه يشترط استبانة خلق آدمي فيما أسقطته المرأة، للتيقن في الحكم بانتهاء العدة.
وأما إذا تبين بالبينة من خلال الفحص الطبي تخصيب البويضة، واستقرارها في الرحم، فإن ذكل مبتدأ حمل، فإذا أسقطت المرأة بعد ذلك، وشهد أكثر من طبيب أن ما أسقطته هو نطفه لإنسان أو علقة أو فوق ذلك، ويظهر ذلك للأطباء من خلال الفحوصات الطبية المختلفة. فكل ذلك بينة يحكم بها على انتهاء العدة بوضع الحمل ( ).
المطلب الثالث: الارتياب في العدة:
اختلف الفقهاء في موضع الارتياب كثيرًا. وعرّفوا المرتابة: "بأنها التي ارتفع حيضها ولم تدر ما سببه من حمل أو رضاع أو مرض " ( ).
تسمى المرتابة في أثناء العدة من الطلاق عند العلماء: المختلفة الأقراء، أو المرتابة بالحيض، أو ممتدة الطهر.
وقد اختلف العلماء في حكم انتهاء عدة المطلقة المرتابة بالحيض على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن عدتها تستمر حتى تحيض ثلاث حيضات، أو تبقى حتى تدخل في سن اليأس الذي لا تحيض في مثله مثلها من النساء، فإذا دخلت في سن اليأس، استأنفت عدة الآيسة ثلاثة شهور.
وهذا مذهب الحنفية والشافعية في الجديد وابن حزم والليث بن سعد والثوري، وجماعة من العلماء واعتبره ابن حجر مذهب أكثر فقهاء الأمصار ( ).
القول الثاني: إن عدتها سنة بعد انقطاع الحيض. وهذا رأي المالكية والحنابلة والشافعي في القديم وجماعة من العلماء ( ).
القول الثالث: إن عدتها ثلاثة أشهر، كحكم اللائي يئسن.
قال طاووس: "إذا كانت تحيض مختلفًا أجزاء عنها أن تعتد ثلاثة أشهر" ( ).
وروي مثله عن جابر بن زيد. كما روي عن عكرمة وقتادة مثلهما، وروي مثله أيضًا عن ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ( ). كما أنه مذهب الزهري ومجاهد ( ). ومال إليه ابن رشد( ).
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول بقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: من الآية4] فظاهر الآية صريح في الحكم للآيسة والصغيرة( )، ويحمل قوله ﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ ، أي في الحكم لا في اليأس.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1-ما رواه سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب: "أيما امرأة طلقت، فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعت حيضتها، فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل، وإلاّ اعتدّت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت " ( ). قال ابن المنذر: "قضى به عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر " ( ).
2-أن المقصود بالعدة إنما هو ما يقع به براءة الرحم ظنًا غالبًا، بدليل أنه قد تحيض الحامل ( )، وإذا كان الأمر كذلك، فعدة الحمل كافية في العلم ببراءة الرحم، بل هي قاطعة على ذلك( ).
واستدل أصحاب القول الثالث بقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَع ِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ﴾ [الطلاق: من الآية4] قال مجاهد: "إن لم تعلموا يحضن أو لا يحضن، واللائي قعدن عن المحيض، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر" ( ). ففسر قوله تعالى: ﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ ، أي لم تعلموا، وقول مجاهد: "واللائي قعدن عن الحيض"، أي حكمهن حكم اللائي يئسن. قال ابن حجر: "وأثر مجاهد هذا وصله الفريابي" ( ).
وعن عكرمة أنه سئل عن التي تحيض فيكثر دمها حتى لا تدري كيف حيضتها؟ قال تعتد ثلاثة أشهر، وهي الريبة التي قال الله عز وجل: ﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾، قضى بذلك ابن عباس وزيد بن ثابت ( ).
المناقشة:
أما استدلال أصحاب القول الأول بالآية : ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ ﴾ [الطلاق: من الآية4] على أن معناه: لم تعلموا ما حكمهن، ونفيهم لأن يكون المعنى: الارتياب في اليأس، فيجاب عنه بأنه يجوز في كلام العرب كون المعنى عدم القطع باليأس. وقد ورد عن ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما معنى ذلك، وورد عن بعض التابعين كمجاهد والزهري وغيرهما ( ).
القول الراجح:
إن مدار الأدلة في هذه المسألة هي حول قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ [الطلاق: من الآية4] وقد صار أصحاب القول الأول إلى الاستدلال بظاهر هذه الآية، باعتبار أن من هي من أهل الحيض ليست بيائسة، وهذا الرأي كما يقول ابن رشد( ) فيه عسر وحرج، وأضاف ابن رشد: "ولو قيل إنها تعتد بثلاثة أشهر لكان جيدًا، إذا فهم من اليائسة، التي لا يقطع بانقطاع حيضها". وهذا ما ظهر أنه جائز في كلام العرب ويؤيد ذلك ما نقله عكرمة وهو تلميذ ابن عباس عن ابن عباس وزيد بن ثابت.
وإذا كان المقصود من العدة التيقن من براءة الرحم فإنه يستعان بالفحص الطبي في إثبات ذلك.
فالطب الآن يقطع ويجزم بحمل المرأة أو عدم حملها، بعد مضي ثلاثة أشهر من طلاقها، بل في أقل من ذلك بكثير، فإن لم يُظهر أحد هذه الفحوصات الحملَ، فلا بد أن يكون الحيوان المنوي قد مات منذ بداية اعتداد المطلقة.
المبحث الثالث: طلاق الحامل
تعريف الطلاق لغة واصطلاحًا:
الطلاق لغة: الطالق: الناقة يحل عنها عقالها وترسل في المرعى، وأطلقت الأسير أي خليته. قال ابن منظور: طلاق النساء لمعنيين : "أحدهما حل عقدة النكاح، والآخر: بمعنى التخلية والإرسال"( ).
والطلاق في الاصطلاح: حل عقد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه( ).
حكم طلاق الحامل:
وليس في حكم طلاق الحامل خلاف كبير بين الفقهاء، والأقوال في ذل كما يلي:
القول الأول: إن طلاق الحامل حرام، إذا كانت تحيض مع الحمل. وبه قال بعض المالكية منهم القاضي أبو الحسن، وهو قول أبي إسحاق من الشافعية ( ).
القول الثاني: إنه جائز. وبه قال أكثر العلماء ومنهم الأئمة الأربعة ( ).
أدلة أصحاب القول الأول:
نظر القائلون بهذا القول إلى الحيض أثناء الحمل، فقاسوا الطلاق فيه على الطلاق في الحيض في غير حمل، وهو محرم بإجماع العلماء، لقوله في حديث ابن عمر لما طلق زوجته وهي حائض: (مره فليراجعها. ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر. ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلَّق لها النساء ) ( ).
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1-حديث ابن عمر، أنه طلّق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي فقال: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً".
2-قال الإمام أحمد: أذهب إلى حديث سالم عن أبيه: (ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً). فأمره بالطلاق في الطهر أو في الحمل ( ).
وقال الخطابي: "في الحديث بيان أنه إذا طلقها وهي حامل فهو طلاق للسنة، ويطلقها في أي وقت شاء في الحمل، وهو قول عامة العلماء" ( ).
3- لأن الحامل التي استبان حملها قد دخل زوجها على بصيرة حين طلقها، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم. وهو الحمل، وليست بمرتابة؛ لعدم اشتباه وجه العدة عليها. وأما إن طلق الحامل التي لم يستبن حملها ظنًا أنها غير حامل ثم ظهر حملها ربما ندم على ذلك ( ).
سبق البيان أن الحامل لا تحيض، وما تراه من دم هو دم فساد وعلة، وأن أدلة القائلين بأن الحامل تحيض محتملة غير قاطعة، وما كان كذلك فلا يجوز أن يُبنى عليه حكم شرعي، لأن الحكم الشرعي يبنى على الدليل وليس الظن والاحتمال.
الراجح:
بعد استعراض أدلة أصحاب القول الثالث، وهو قول عامة الفقهاء يتبين أنه القول الراجح، سيما وأنه قد ورد في طلاقها حديث صحيح عند الإمام مسلم: (ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً)، وهي زيادة من ثقة ( )، فهي مقبولة، مع ضعف أدلة المخالفين، التي لا تصلح ليقوم عليها الحكم بمنع طلاق الحامل.
المبحث الرابع : نفقة الحامل
معنى النفقة لغة وشرعًا:
النفقة لغة: ما أنفقت واستنفقت على العيال وعلى نفسك. وأنفق المال: صرفه ( ).
وعرّفه ابن الهمام بأنه: "الإدرار على الشيء بما به بقاؤه" ( ).
حكم نفقة المرأة الحامل المطلقة:
أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثًا (المبتوتة)، أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة. بدليل قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: من الآية6]( ).
الحامل المتوفي عنها زوجها:
اختلف العلماء في نفقة الحامل المتوفي عنها زوجها على قولين:
القول الأول: إن نفقتها من جميع المال الذي ورّثه زوجها حتى تضع حملها. وهذا مروي عن علي وابن عمر وابن مسعود، وشريح والنخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان والحسن وعطاء وقتادة وأبو العالية ( ). وهو روايه عن أحمد ( ).
القول الثاني: إنه لا نفقة ولا سكنى للحامل المتوفي عنها زوجها، وهو مروي عن ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ( ). وعلى ذلك اتفق الأئمة الأربعة ( ).
وفي هذه الحالة لا نفقة ولا سكنى للمتوفي عنها، فإنه ينفق عليها من نصيبها من الميراث أو من مالها، إن لم يكن لها نصيب من الميراث لسبب من الأسباب ( ).
الأدلة :
استدل ابن قدامة لأصحاب القول الأول بالقياس: فهي حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة المطلقة من زوجها ( ).
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1-لأن الإجماع انعقد على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حيّ، مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه، فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه ( ).
2-لأن المال قد صار للورثة، ونفقة الحامل وسكناها إنما هو للحمل أو من أجله، ولا يلزم ذلك الورثة؛ لأنه إن كان للميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه، وإن لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الإنفاق على حمل أمرأته، كما لا يلزمه ذلك بعد الولادة ( ).
المناقشة والترجيح:
يرى الباحث أن الراجح هو سقوط نفقة الحامل المتوفي عنها زوجها.
وقد أجاب ابن حزم على من أوجب النفقة من جميع المال للمتوفي عنها بقوله: إنه خطأ لا خفاء به؛ لأن مال الميت ليس له، بل قد صار لغيره، فلا يجوز أن ينفق على امرأته من مال الغرماء أو من مال الورثة أو مما أوصى به لغيرهما. وهذا عين الظلم ( ).
المبحث الخامس: تأجير المرأة رحمها:
يراد بتأجير المرأة أن يتفق الزوجان مع امرأة أخرى على غرس البويضة الملحقة من المرأة الأولى بماء زوجها في رحم الثاني بأجر متفق عليه، وتسمى المرأة الثانية ( ): الأم المستعارة والرحم الظئر ومؤجرة البطن.
صور الرحم المستأجرة:
إن الرحم المستأجرة يمكن أن تكون بصورة متعددة كما يلي( ):
الصورة الأولى: تؤخذ بويضة من الزوجة وتلقح بماء زوجها، ثم تعاد اللقيحة إلى رحم امرأة تستأجر لذلك بسبب آفة في رحم الزوجة، أو أن هذا الرحم قد استئصل بعملية جراحية، أو ترفهًا من المرأة رغبة منها في البعد عن المشقة الناتجة من الحمل والولادة.
الصورة الثانية: يجري تلقيح خارجي بين نطفة رجل وبويضة امرأة ليست زوجته. ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متبرعة، وعند ولادة الطفل تسلمه للزوجين العقيمين.
الصورة الثالثة: يجري تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين. ثم تعاد اللقيحة في رحم امرأة أخرى هي زوجة ثانية للرجل. وقد تكون إحداهما متبرعة للأخرى، حيث تبرعت الأولى بالبويضة، وتبرعت الأخرى برحمها للحمل، وهذه صورة نظرية لم تحدث حتى الآن.
حكم صور تأجير الرحم:
منع مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث كل صور تأجير الرحم، فاعتبرها محرمة شرعًا وممنوعة منعًا باتًا؛ لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة، وغير ذلك من المحاذير الشرعية ( ). فهي محرمة لاختلال رحم الزوجية، الذي هو من دعائم الهيئة الشرعية المحصلة للأبوة والأمومة( ).
التفصيل الفقهي في هذه المسألة:
بما أن الإسلام لا يقبل طريقًا للتناسل سوى طريق الزواج، فقد أفتى علماء الإسلام الأجلاء، بأن أي وسيلة للتناسل يستخدم فيها طرف ثالث، هي لاغية وباطلة ومحرمة شرعًا وموجبة للتعزير لكل من يشترك فيها ( ).
والمقصود باستخدام طرف ثالث، استخدام مني رجل آخر أو بويضة امرأة أخرى، أو أن تحمل اللقيحة امرأة أخرى (رحم مستأجر)( ).
وأما الصورة الثالثة من صور تأجير الرحم، وهي وضع اللقيحة في رحم الزوجة الثانية، فقد حرمها مجلس الفقه الإسلامي، وألحقها بالصور الأخرى لتأجير الرحم، بعد أن كان قد أجازها، ثم توقف بعد ذلك عن الحكم عليها للأسباب التالية: "إن الزوجة الأخرى التي زرعت فيها لقيحة بويضة الزوجة الأولى، قد تحمل ثانية قبل انسداد رحمها على حمل اللقيحة من معاشرة الزوج لها في فترة متقاربة مع زرع اللقيحة، ثم تلد توأمين، ولا يعلم ولد اللقيحة من ولد معاشرة الزوج، كما لا تعلم أم ولد اللقيحة التي أخذت منها البويضة من أم ولد معاشرة الزوج. كما قد تموت علقة أو مضغة أحد الحملين، ولا تسقط إلا مع ولادة الحمل الآخر الذي لا يعلم أيضًا أهو ولد اللقيحة أم حمل معاشرة ولد الزوج، ويوجب ذلك اختلاط الأنساب لجهة الأم الحقيقية لكل من الحملين، والتباس ما يترتب على ذلك من أحكام، وإن ذلك كله يوجب توقف المجمع عن الحكم في الحالة المذكورة" ( ).
نسب المولود في هذه الصورة:
على الرغم من أن جميع صور تأجير الرحم محرمة شرعًا، وممنوعة منعًا باتًا، لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة، إلا أنه ينبغي البحث في الآثار المترتبة من الولادة بهذه الصور.
والسؤال المطروح هنا، لمن يكون نسب المولود الذي جاء من هذه العملية؟
أولاً : الصورة الثالثة:
والتي يجري فيها تلقيح بين بذرتي زوجين، ثم تعاد اللقيحة في رحم الزوجة الثانية.
ينسب الولد عن طريق هذه الصورة إلى أبيه؛ لأنه زوج المرأتين، صاحبة البويضة، والتي حملت الولد وولدته، وهو صاحب الحيوان المنوي، كما أنه صاحب الفراش، وقد قال النبي : (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ( ).
ثانيًا: الصورتين الأوليتين:
إذا كانت المرأة التي احتضنت اللقيحة أجنبية عن صاحب الحيوان المنوي، فإن كانت ذات زوج، فإن المولود ينسب لزوجها؛ لأنه صاحب الفراش، وأعطاه الشارع حقًا في أن ينفي هذا الولد ويلاعن على ذلك ( ).
وأما إن كانت غير ذات زوج، فيكون هذا الولد قطعًا لا أب له معروفًا، ويكون من الزنا الصراح، ويأخذ حكم اللقطاء، وينسب إلى أمه. وهذا رأي جماهير العلماء.
ومن أدلة هذا الرأي قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى *مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ [لنجم:45 – 46] .
ووجد الدلالة من الآية أن الإنسان مكون من النطقة الملقحة من أبويه، فهما أولى به.
من هي الأم في هذه الصورة؟
وأما الأم في هذه الصور الثلاث، إذا كانت المرأة التي حملت وولدت من بويضة امرأة أخرى، فقد انقسم العلماء في هذه المسألة إلى ثلاثة آراء:
الرأي الأول: أن الأم الحقيقية هي صاحبة البويضة. وأما صاحبة الرحم الظئر التي حملته وولدته، فهي أمُّ مثل أم الرضاع؛ لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع، الذي يحرم به ما يحرم من النسب، وقال به بعض العلماء.
الرأي الثاني: أن الأم الحقيقية هي التي حملت وولدت، وأما صاحبة البويضة، فهي مثل أم الرضاع.
وقال بذلك أغلبية الفقهاء الذين تحدثوا في هذه الموضوع في مجالس مجمع الفقه الإسلامي ( ).
ومن أدلة هذا الرأي قوله تعالى: ﴿ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ [المجادلة: من الآية2]، وهذا نص قطعي الثبوت والدلالة، سيما أنه جاء على صيغة الحصر ( ).
الرأي الثالث: ليست إحداهما أمًا للولد؛ لأنه قد انقطعت الصلتان معًا عنهما، حيث انفصمت إحدى الصلتين قطعًا، وهي "البويضة" عمن ولدته، وانفصمت الصلة الثانية للأم، وهي "الحملة والولادة" عن صاحبة البويضة ( ).
الراجـح:
يميل الباحث إلى ترجيح رأي الدكتور بكر أبو زيد في عدم اعتبار أي من المرأتين، أمًا بالنسب للمولود. ولكن الباحث يرجِّح أن كلا المرأتين مثل أم الرضاع؛ لأنه تكوّن من البويضة الأولى واكتسب من الثانية.
وأما الأدلة التي قدّمها أصحاب القولين الأول والثاني فهي قاصر لكل منهما، حيث إن للمولود بأمه صلتان:
الأولى: صلة تكوين ووراثة، "البويضة" منها.
الثانية: صلة حمل وولادة وحضانة، وأصلها "الرحم" منها ( ).
وليس دليلاً قاطعًا أنه يجوز أن تكون الأمومة الشرعية لأحدهما دون الآخر، وليس قوله تعالى: ﴿ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ ، نصًا قطعي الدلالة؛ لأن في دلالته اختلاف، فما تلده ليس من رحمها إنشاءً وانتهاءً، بل هو من رحمها انتهاءً فقط بحمله فيه، وأما البويضة فمن غيرها.
الفصل الثالث
عقوبة المرأة الحامل
مدخل إلى الفصل:
إن تنفيذ العقوبات الممنوع على الحامل هو ما يضر بالحمل، فإن أمكن معاقبة الحامل على مخالفتها بحيث تقع العقوبة حال الحمل، بدون أن يسري أذى العقوبة إلى الجنين فيجوز ذلك، وإن لم يكن إقامة العقوبة عليها إلا بالإضرار بالجنين، فيجب التأخير إلى أن تضع.
المبحث الأول: العقوبات اللازم تأخيرها عن الحامل إلى الوضع:
أولاً : الحدود:
لا خلاف بين العلماء أنه لا يقام الحد على المرأة الحامل، سواء كان الحمل من زنا أو غيره، وسواء وجبت العقوبة قبل الحمل أو بعده ( ).
ويشمل ذلك الحدود كلها كالرحم والجلد والقطع، وعلة ذلك الحفاظ على حياة الجنين؛ لئلا يهلك بتنفيذ الحد على أمه.
ومستند ذلك: حديث بريدة رضي الله عنه في رجم المرأة الغامدية التي زنت: "قالت: يا رسول الله طهّرني فقال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)، فقالت: أراك تريد أن تردّني كما رددت ماعز بن مالك. قال: (وما ذاك؟)، قالت: إنها حبلى من الزنى. فقال: (أنت؟)، قالت: نعم فقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك). قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي فقال: قد وضعت الغامدية . فقال: (إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه)، فقام رجل من الأنصار فقال: إليّ رضاعه يا نبي الله قال: (فرجمها") ( ).
قال الإمام النووي في شرحه لحديث الغامدية هذا: "فيه أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع سواء كان حملها من زنا أو غيره، وهذا مجمع عليه؛ لئلا يقتل جنينها، وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل، لم تجلد بالإجماع حتى تضع" ( ).
ثانيًا : القصاص:
وكما لا يجوز تنفيذ العقوبة على الحامل التي أصابت الحد حتى تضع، فكذلك لا يجوز أن يقتص منها. قال ابن رشد: "أجمعوا على أن الحامل إذا قَتَلتْ عمدًا، أنه لا يقاد منها حتى تضع حملها" ( ).
وسواء في منع القصاص منها قبل وضعها أن تكون حاملاً وقت الجناية أو حملت بعدها قبل الاستيفاء، وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف ( ).
واستدلوا على ذلك بالأدلة التالية:
أولاً : القصاص في النفس:
1-لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ﴾ [الاسراء:33] وقتل الحامل قتل لغير القاتل. وهو الجنين فيكون إسرافًا ( ).
2-حديث بريدة في رجم الغامدية، وفي أن النبي ردها وقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك). قال الإمام النووي: "فيه أن من وجب عليها القصاص وهي حامل، لا يقتص منها حتى تضع، وهذا مجمع عليه" ( ).
والعلة الجامعة في التأخير إلى الوضع، هي الحفاظ على حياة الحمل خوف هلاكه.
ثانيًا: القصاص في الطرف:
إن كان الغالب تضرر الحمل بالقصاص في الطرف، فلا يقتص م المرأة الحامل لما يلي:
القياس: لأن استيفاء القصاص خشية السراية إلى الجاني أو إلى في حقه ممنوع، فلأن تمنع منه خشية السرايا إلى غير الجاني. وهو الحمل. بتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ( ).
متى تستوفي العقوبة على الحامل بعد الوضع؟
أولاً : في الحدود:
أ-الرجم: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يستوفي الرجم من المرأة المحصنة إذا كانت حاملاً بعد الوضع مباشرة، حتى ترضعه هي، وإن وجدت له مرضعة، وإذا انقضى الإرضاع لم يستوف أيضًا حتى يوجد للطفل كافل. وهذا مذهب الشافعية ( ).
القول الثاني: يقام الحد بالرجم على المرأة المحصنة إذا كانت حاملاً بعد الوضع مباشرة ( ).
استدل الشافعية بما يلي: حديث بريدة في رجم الغامدية من طريق بشير بن المهاجر وفيه: "فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله لم تردني كما رددت ماعزًا، فو الله إني لحبلى. قال: (إما لا، فاذهبي حتى تلدي،، فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة. قالت: هذا قد ولدته قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)؛ فلما فطمته أتته بالصبي ي يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها" ( ).
قال الإمام النووي: "فهاتان الروايتان ( ) ظاهرهما الاختلاف، فإن الثانية صريحة في أن رجمها كان بعد فطامه وأكله الخبز، والأول ظاهرها أنه رجمها عقب الولادة ويجب تأويل الأولى وحملها على وفق الثانية؛ لأنها قضية واحدة، والروايتان صحيحتان، والثانية منهما صريحة لا يمكن تأويلها، والأولى ليست صريحة، فيتعين تأويل الأولى، ويكون قوله في الرواية الأولى: (قام رجل من الأنصار، فقال: إليّ رضاعه)، إنما قال بعد الفطام، وأراد بالرضاعة كفالته وتربيته، وسماه رضاعًا مجازًا ( ). واستدل الجمهور على قولهم بما يلي حديث بريدة من طريق ابنه سليمان، وفيه زيادة: (إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه)، فقام رجل من الأنصار فقال: إليّ رضاعه يا نبي الله قال: (فرجمها" ) ( ).
في هذه الرواية دليل على أن العلة في تأخير الرجم رعاية الصغير وحفظه من الهلاك، لعدم وجود من يرضعه، فلما توفرت المرأة المرضع له بتكفل رجل من الأنصار برضاعة، انتفت علة التأخير، فرجمها رسول الله .
الترجيح:
يترجح لديّ قول الجمهور؛ لأن الرواية التي استدل بها الشافعية رواية شاذّة، فهي من رواية بشير بن المهاجر. وبشير بن المهاجر ليس ثقة، بل هو صدوق لين الحديث، بل قال عنه أحمد بن حنبل: "هو منكر الحديث"، وقال المنذري: " ولا عيب على مسلم في إخراج هذا الحديث، فإنه أتى به في الطبقة الثانية، بعدما ساق طرق حديث ماعز، وأتى به آخرًا، ليبين إطلاعه على طرق الحديث، والله أعلم" ( ).
وإذا كانت زيادة الثقة تقبل؛ بشرط ألا تخالف الثقات، فكيف إذا كانت المخالفة من غير الثقة؟ ( ).
والمخالفة من بشير بن المهاجر في التأخير إلى الرضاع هي مخالفة الثقات الذين ذكروا التعجيل في إقامة الحد على الغامدية، بعد تأمين من يرضع الصغير.
ب- الجلد: يرى العلماء أنه لا يقام حد الجلد على المرأة الحامل حتى تضع وتخرج من نفاسها ( ).
ثانياً: في القصاص:
يرى العلماء ومنهم الأئمة الأربعة تعجيل القصاص في النفس أو الطرف على الحامل إذا وضعت، ولكن يجب التأخير إلى أن توجد مرضعة أو ما يعيش به، وإلا أرضعته هي حولين وتفطمه. ومثله المرضع ( ).
المبحث الثاني: العقوبات التي تقام على الحامل حال حملها:
ولكثرة العقوبات التي يمكن أن تقام على الحامل حال حملها، فإنني أعرض لأهمها.
أولاً : الحبس:
العقوبات البدنية التي تثبت بالحدود أو القصاص، ولا يمكن إقامتها في الحال هل يجب حبس المرأة لحين إقامتها عليها؟
والحبس في اصطلاح الفقهاء: هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل الخصم أو وكيله عليه، وملازمته له ( ).
وتحبس المرأة الحامل في القصاص إلى أن يمكن الاستيفاء منها بعد الوضع، ولا يقبل منها كفيل في ذلك؛ لأن المقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في إيفاء الحد والقصاص، وهذا لا يتحقق في الحدود والقصاص ( ).
وأما الحبس في الحدود، فإنها تحبس عند المالكية إذا لزمها حد من حدود الله تعالى إلى الوضع، إذا خيف عليها من إقامته في حال الموت ( ).
وأما الحنفية فيرون حبس الحامل إن ثبت زناها بالبينة مخافة أن تهرب، وإن ثبت بالإقرار فلا تحبس؛ لأن الرجوع عن الإقرار صحيح، فلا فائدة في الحبس، والنبي لم يحبس الغامدية ( ).
وأما الشافعية فيرون أن لا تحبس الحامل إن كان عليها رجم أو غيره من حدود الله تعالى، على الصحيح المشهور في مذهبهم؛ لأن الحدود مبنية على التخفيف والتساهل ( ).
الترجيح:
يميل الباحث إلى رأي الحنفية لقوة تعليلهم، وأن من مقتضيات إقامة الحد، الحبس الذي يمكن استيفاؤه، ونأمن من هربها، وأما إن ثبت الحد بالإقرار، فلا تحبس؛ لأن لها الرجوع عنه.
ثانيًا: القصاص فيما دون النفس:
يستثنى من حالة وجوب تأخير القصاص فيما دون النفس إلى الوضع، ما لو كان الغالب بقاؤها، وعدم تضرر الحمل بالاستيفاء منها فيستوفي، وهذا ما نص عليه ابن قدامة ( ). ولم أجد غيره ذكره.
ثالثًا: التعزير:
التعزير في اصطلاح الفقهاء: هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود ( ).
والتعزير يشتمل على مجموعة من العقوبات تبدأ من النصح، وتنتهي بالجلد والحبس ( ).
ويميل الباحث إلى أنه لا مانع من إيقاع عقوبات التعزير على المرأة الحامل إذا كانت لا تضر بالحمل.
بقلم/ يحيى بن عبد الرحمن الخطيب