[right]
الحمد لله الذي لا تتم الصالحات الا بنعمته ، و الصلاة و السلام على خير خلقه و خاتم رسله ، و البركات على من تبع المنهج المحمدي حتى يوم لقاء ربه....
اما بعد ، فلما كانت للشريعة الاسلامية السمحاء - بشهادة الجميع - صفة ربانية كانت صالحة لكل الازمان و الاماكن و لها القدرة في مواكبة تطور العصور ، ولعل السبب يعود الى خصوبة مواد هذه الشريعة و المامها لكل ما يستجد وذلك بوجود ما لها من اصول ثابتة و طبيعة مرنة و استراتجية المقصدية الثلاث ؛ ( وهي المصالح : الضرورية و الحاجية و التحسينية ) ، وخير دليل على ذلك ما قدمتها من خلال الفقه الاسلامي كثروة طائلة للبشرية عبر العصور وذلك بمعالجة كيفية تنظيم الحياة عن طريق اقرار الحقوق و الحد من استعمالها بفرض الواجبات و الالتزامات ، و السر الذي يكمن في حيوية هذه الشريعة هو ان تنظيمها لا يقتصر على تنظيم الامور بين الناس فقط بل بين العبد و ربه و بين العبد و نفسه ، و هذا هو المنطلق التربوي الذاتي للالتزام بالقانون ( منظم الحياة ) الذي يحث عليه منذ القدم فلاسفة القانون . وهذه الثروة الفقهية الكبيرة منذ نشوئها كان موضع الاهتمام و البحث عند العلماء حيث قاموا بوضع علوم و فنون المختلفة لتسهيل كيفية الاستفادة من مواد الاولية في هذه الشريعة وهي ( القران الكريم و السنة الصحيحة ) و يتحولها الى لغة الفقه والاحكام و كيفية تطبيقها في الفقه العملي او القضاء . ومن ابرز هذه الفنون هي ( القواعد الفقهية الكلية ) التي كانت شقت طريقها الى الوجود منذ نشاة الفقه الى ان تربعت في اثراء الاحكام و التشريعات الوضعية .
وبعد توكلنا على الواحد الصمد ، قررنا مع استاذي الفاضل ( الدكتور عبدالهادي محمد عبدالله ) اختيارها كموضوع بحثنا المقدَم لكلية القانون لتكملة شهادة بكالورس في القانون في جامعة السلمانية في اقليم كوردستان العراق .
وعنوان بحثنا هو ( دور القواعد الكلية في بناء الاحكام المدنية ) والذي نود فيه ان نبين حلقة الوصل بين هذه القواعد الفقهية المعروفة كعلم و فن في الشريعة الاسلامية ومدى الاستفادة منها حاليًا و مستقبليًا في استنباط و استخراج الاحكام المدنية في اطار القانون المدني العراقي . وصعوبة البحث ظهرت بعد ان عرفنا انّ دراسة هذا التواصل لم يكن موضع بحث كلي في الدراسات المقارنة بين الشريعة و القانون ، وان كانت هناك محاولات لكنها كانت في اطار جزئي حيث لم يكن لها اهمية بالغة في التقدير، فمثلا علماء الشريعة في مؤلفاتهم تطرقوا الى القواعد الفقهية كثيرًا دون الاشارة الى ما لها من اثر في التشريعات و القوانين ، وحتى فقهاء الفقه المقارن اقتصروا على سردها و شرحها ما كانت موجودة بين المواد القانونية دون جمعها كبحث كلي ، وابراز الوجه المقارن بينها و بين القانون جاء في محاولات الشروحات الموجودة لمجلة الاحكام العدلية الصادرة في حكم العثماني عام ( 1869 ) ، و لعل - حسب اطلاعي - على كتاب الدكتور مُحي هلال السرحان ( القواعد الفقهية و دورها في اثراء التشريعات الحديثة ) هو الاول من نوعه في البحث المقارن المفصل و الكلي بينهما .
لندرة هذا الوجه من البحوث و انتباه الباحثين و الناظرين على حقيقة الشريعة و ما فيها من حلول لجميع النوازل و الحوادث ، و ما لهذه القواعد من فوائد نظرية و عملية، ومن ابرزها صلاحيتها لبناء الاحكام عليها منطوقاً و مفهوماً ، جعلنا هذه القواعد موضوع بحثنا و الذي وقفنا على اهميتها البارزة في الاحكام المدنية المالية في القانون المدني العراقي ، متواضعين على طرقة الباب دون الدخول الى الجزئيات و التفاصيل ، لعله يكون حافزًا لتقدم الدراسات في هذا المنوال بين القواعد الفقهية الكلية وجميع الفروع القانون الوضعي ، و ليس ذلك بعسير اذا تيقن الباحث ان في هذه القواعد مبادئ تكون المدار الكلي الذي تدور عليه جميع الاحكام الشريعة بسعتها كالمبادئ الخمس الكبرى وهي ؛ ( مبدا التيسر ، و مبدا النية ، ومبدا اليقين ، ومبدا الاخذ بالعرف ، ومبدا ازالة الضرر ) .
واتبعنا المنهج المقارن بين الشريعة و القانون ، بدءًا من الاستقراء الكلي لمادة القواعد الفقهية من حيث تعريفها و نشاتها و نموها واهميتها و تمييزها عما يشابهها ، توصلاً لابراز احد مهامها و هي مدى صلاحيتها لاستنباط الاحكام في القانون المدني الوضعي، وذلك بمناقشة الاختلاف الوارد في الموضوع و ثم تحديد اهم القنوات مرور هذه القواعد لبناء هيكلة الاحكام المدنية ، واخيرًا اخذنا نموذجًا من هذه القواعد كمنهج وصفي تحليلي عملي لكيفية الوقوف على كل قاعدة بحد ذاتها ، وهي القاعدة المشهورة بقاعدة ( التيسير و اليسر ) او ( رفع الحرج و دفع المشقة ) .
و قسمنا البحث على ثلاثة مباحث وكل مبحث على مطلبين و كل مطلب على نقاط حسب الطلب ، بالوجه التفصيلي الاتي :
المبحث الاول : ماهية القواعد الكلية :
وهو مقسم على مطلبين :
المطلب الأول : بيان مفهوم القواعد الكلية و تطورها و انواعها .
ويشمل اربعة نقاط :
اولاً : بيان وتعريف القواعد الكلية .
ثانيًا : نشوء القواعد الكلية وتطورها كالصيغ القانونية ( نبذة تاريخية عنها ) .
ثالثًا : أنواع القواعد الكلية .
رابعًا : تمييز القواعد الكلية من مصطلحات متقاربة منها .
المطلب الثاني : أهمية القواعد الكلية ومدى صلاحيتها في بناء الأحكام .
المبحث الثاني : اوجه بناء الاحكام المدنية على القواعد الكلية :
مقسم على مطلبين :
المطلب الاول : دور الشريعة الأسلامية في بناء الأحكام المدنية عموماً .
المطلب الثاني : دور القواعد الكلية في عملية بناء الاحكام المدنية .
المبحث الثالث : بيان قاعدة ( المشقة تجلب التيسير ) و تطبيقاتها( نموذجًا ) :
وهو في مطلبين :
المطلب الاول : بيان القاعدة و القواعد المتفرعة منها .
في نقطتين ، وكل نقطة في شقين كما يلي :
اولاً : بيان القاعدة :
الشق الاول :معنى القاعدة .
الشق الثاني : ادلة القاعدة .
ثانيًا : القواعد الفقهية المتفرعة منها .
الشق الاول : القواعد الجزئية الفقهية المشابهة و التطبقية لها .
الشق الثاني : القواعد الجزئية الفقهية القيودية لها .
المطلب الثاني : تطبيقات القاعدة في الشريعة و القانون المدني العراقي .
واخيرًا بخاتمة و تقديم اهم التوصيات لتوسع في الموضوع لمن يريد البحث في القواعد الكلية الفقهية مقارناً بالقانون الوضعي وفروعه .
وبالله وحده ابدأ و هو خير المعين .
المبحث الأول
ماهية القواعد الكلية
يشمل هذا المبحث البحث في ماهية القواعد الفقهية الكلية ، وذلك بتعريف القواعد الكلية لغة واصطلاحاً و بيان مفهومها ، ثم نشوء و نمو وازدهار هذه القواعد بادوارها الثلاثة حتى انتهت بها المطاف في صيغ قانونية ، وبعد التعرف عليها و لمحة تأريخية على ظهورها نتعرف على أنواع هذه القواعد وذلك حسب تقسيمات معينة و نميزها عن مايشابهها من المصطلحات ، وأخيرا نبرز أهمية هذه القواعد من حيث دراستها ومدى أهميتها عمليًا خاصة في مدى صلاحيتها للاستتناد اليها كدليل و مصدر في بناء الأحكام. وكل ذلك في مطلبين ، وهما
المطلب الأول : بيان مفهوم القواعد الكلية و تطورها و انواعها .
المطلب الثاني : تطبيقات القاعدة في الشريعة و القانون المدني العراقي .
المطلب الأول
بيان مفهوم القواعد الكلية و تطورها و انواعها
سنبحثه في اربعة نقاط تباعا :
اولاً : بيان وتعريف القواعد الكلية .
ثانيًا : نشوء القواعد الكلية وتطورها كالصيغ القانونية ( نبذة تاريخية عنها ) .
ثالثًا : أنواع القواعد الكلية .
رابعًا : تمييز القواعد الكلية من مصطلحات متقاربة منها .
اولاً : بيان وتعريف القواعد الفقهية:
إن كلمة ( القواعد الكلية ) مركبة من كلمتين وهما ؛ موصوف جمعي بجمع تكسير وهو ( قواعد ) و وصف وهو ( كلية ) .
فالقواعد من مادة ( قعد ) جمع ( قاعدة ) لغة : ( الأساس ) أو ( البنيان ) الذي يرتكز عليه الشيء ، حسيًا ذلك : كقواعد البيت ، كما في قوله تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ) ، أو معنويًا : كقواعد الدين .
وفي اصطلاح العلماء يعرف القاعدة : بأنها الضابط أو الأمر أو القضية ( الكلية المنطبقة على جميع جزئياته أو جزئياتها ) ، كقواعد النحو و قواعد القانونية وقواعد الفقهية و قواعد الأصولية ، وكل شواذ أو إستثناءات أو نوادر على هذه القواعد لاحكم لها ولا تنقض القواعد . وبهذا المدلول كثيراً ما يطلق القاعدة على ( الأصل ) و (القانون ) و ( الضابط ) وإن كان هناك فروق بينهم ، و وجه المقارن تقاربًا و تمييزاً كما يلي :
- إن القانون إذا استعمل بإحدى معانيه - كما لدى فلاسفة العلوم - وهو معنى الاطراد بحيث متى وجد هذه الحالة بعد توافر شروطها يترتب عليه نتائج معينة ، كقانون ( أو قاعدة ) العرض و الطلب في علم الإقتصاد و قانون الجاذبية في علم الفيزك وهكذا ..ومن جانب آخر لغويًا كثيرا ما تفسر كلمة القانون بأنه يعني القاعدة ، أو تعرف بنفس تعريف القاعدة .
ويفرق القانون عن القاعدة إذا استعمل القانون بمعانيه الأخر و خاصة بما هو معروف عند القانونيين والذي يعني ؛ مجموعة من القواعد القانونية العامة التي تنظم علاقات الأشخاص في المجتمع و التي تقسر الحكومة الناس على اتباعها عن طريق توقيع الجزاء على مخالفيها .
فهنا القانون أعم من القاعدة ، حيث باجتماع مجموعة من القواعد ذات صفة القانونية تشكل ما يسمى بالقانون .
- الأصل لغة يعني : أساس الشيء الذي يقوم عليه . متى كان الغرض من استعماله حمل المفهوم الكلي على وجه كلي بحيث إندرج فيه أحكام جزئياته يراد و يرادف القاعدة بمعناها الاصطلاحي ، لذلك يقال ؛ الأصول من حيث أنها مبنية و أساس لفرعها-وهوعكس الأصل - سميت القواعد .
ويختلف عنها أن الأصل يعني المصدر و الدليل ، فحينما يسئل : ما هي أصول القانون العراقي ؟ يعني : ماهي المنابع و المصادر لقانون العراقي ؟
- الضابط أحياناً يعرف بنفس ما تعرف به القاعدة اصطلاحًا ، حتى القاعدة نفسها في مفردات تعريفها قد تبدأ بأنها هي الضابط ، وهذا هو وجه إستعمالهما كمترادفين و لانهما تجمعان الفروع تحتهما .
ويختلفان في أن القاعدة أعم من الضابط في إجتماع الفروع تحتها وأحياناً تطلق على فرع واحد بأنه ضابط و بان القاعدة هي اصل .
أما ( الكلية ) في اللغة تعني : الجمع ، فحينما يقال : أخذ بكلية الشيء . يعني ؛ أخذ بأجمعه .
و كلمة ( القواعد الكلية ) بأكملها إصطلاحيًا لها معنيان :
أولاً : معنى عامًا : وهي نفس معنى القاعدة اصطلاحًا عند العلماء ، أي ؛ الضابط أو القضية المنطبقة على جميع جزئياتها ، لإنه ما من علم من العلوم سواء أكان من العلوم الإجتماعية ام الإنسانية أم العلوم الطبيعية أم العلوم النقلية ام العقلية إلا وله قواعده الكلية وقوانينه المطردة وأصولها الثابتة ، وكثيرًا ما تدرس هذه القواعد الكلية ضمن مواد (المدخل ) أو ( النظرية ) لذاك أو ذلك العلم .
ثانيًا : معنى ضيقاً : وهو المعنى الشائع للقواعد الكلية وهو يعني ( القواعد الفقهية ) التي تعرف بأنها : ( أصول فقهية كلية موجزة دستورية ، تتضمن أحكامًا تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها ) . أو ( أحكام شرعية أغلبية يأتي تحتها مسائل فقهية فرعية ، ويتعرف من خلالها على أحكام تلك المسائل ) وهي مقابل (المبادئ العامة القانونية) ، وهذا ما صرح به كلا الأستاذين الدكتور مصطفى الزرقا و الدكتور مالك دوهان حسن . و المعنى الثاني هو المراد في بحثنا .
وقد يطرح سؤالاً وهو لماذا لم يسم بداية العنوان بالقواعد الفقهية بدلاً من القواعد الكلية؟ دفعًا للحرج و عدم الخوض في اللبس الإصطلاحي !
وإن كان هذا الطرح له من الصحة ما لا يخفى ، ولكن إتيان المصطلح بهذا التركيبة (القواعد الكلية ) لها مدلولاته، منه :
أ/ لاستعاب جميع القواعد الفقهية ،لإن هناك مجموعة من القواعد الفقهية أصلها من العلوم الشرعية والآلية الأُخرى ، ولكن لكثرة إستعمالها وفوائدها الجمة للتعامل مع الأحكام جرت مجرى القواعد الفقهية بحيث من القدم تدرس وتصنف هذه القواعد ضمن مادة القواعد الفقهية ، مثلا : قاعدة ( ماثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه ) وهي قاعدة أصولية الأصل ، وقاعدة ( الأصل في الكلام حقيقة ) وهي قاعدة منطقية بلاغية لغوية اصولية الأصل ، وقاعدة ( النكرة في سياق الإثبات للمطلق ، ولكن في سياق النفي للعموم ) وهي قاعدة لغوية بلاغية الأصل ... وهكذا .
ب/ لغرض اقتراب أكثر عمليًا بينها و بين ( المبادئ العامة ) التي تستعمل عند القانونيين ، وكما أشرنا سابقا أن ( الكلية ) تعني ( الجمع ) .
وهكذا ترادفت القواعد الكلية ( الفقهية ) المبادئ العامة القانونية ، لان كليهما حلول عامة وكلية حيث يمكن إستنباط و إستخراج الحكم الواحد منهما للقضايا و الحوادث المستجدة ، أو كلايهما صالحان لاستجماع الأحكام الفرعية والتفصيلية تحتهما .
ثانيًا : نشوء القواعد الكلية وتطورها كالصيغ القانونية ( نبذة تاريخية عنها ) :
يكاد يخلو جميع الكتب المتعلقة بـتأريخ العلوم الشرعية و التشريع الأسلامي من البحث حول نشوء و تطور القواعد الكلية كـ( علم ) مستقل ، بل كثيرًا مابحثوها ضمن الفنون الآلية التابعة و المكملة لعلم ( أصول الفقه ) و أوردوها- سواء بصيغ ( قواعد كلية ) او ( قواعد فقهية ) ، أم تدريس جوهرها وذلك بسرد مواضعها و بيان مادتها- تحت طائلة العلم باصول و أدلة الحكم والفقه . ولكن مع ذلك إن فن ( القواعد الفقهية ) منذ القدم شق طريقه و برز معالمه لكي يظهر كعلم مستقل و خصب حيث ما من دارس فقهي أو قانوني الا ويستعين به لمعرفة كيفية استخلاص الأحكام و إرجاعها إلى مبادئها الأولية و لنشوء بداهة اجتهادية حاضرة لديه .
إن هذه القواعد لم تظهر بدفعة واحدة بل مرت بثلاث أدوار بدءاً بمرحلة النشوء ثم النمو و التدوين حتى انتهت بها المطاف كي تصاغ بصيغ قانونية و تدون في التقنيات القانونية ، وهذه الادوار كما تلي :
أولاً : مرحلة النشوء :
مادام هذا العلم من علوم الشريعة الاسلامية ومدار بحثه هو تجميع الأحكام في مبادىء كلية ، إذاً مع فرض الأحكام الفقهية كان هناك سهم لمجموعة من القواعد الفقهية ، وكان أكثرها تبرز كجوامع الكلم او كحلول الحُكْمِيَة تطبيقها صالحة لمجموعة من القضايا و الحوادث . ففي عصر الرسالة كانت الأحاديث النبوية الشريفة في كثير من الأحكام بمثابة القواعد العامة التي تنطوي تحتها فروع فقهية كثيرة ، وهي بجانب ذلك مصدر هام لذات القواعد الكلية الفقهية ، وأصدق شاهد هذه الأحاديث النبوية :
- ( الخراج بالضمان ) .
- ( العَجْماء جُرحْها جُبار ) .
- ( لا ضرر و لاضرار ) .
- ( إنََّ لصاحب الحق مقالاً ) .
- ( إدروؤا الحدود بالشبهات ) .
- ( البينة على الُُُمدعي و اليمين على من أنكر أو المدعي عليه ) .
- ( المنحة – العطية – مردودة ، و العارِية مؤدَاة ، والدَين مَقضيٌّ ، و الزعيمُ – الكفيل– غارم – ضامن - ) .
وعلق الخطابي في كتابه ( غريب الحديث ) على الحديثين الاخيرين بقوله : " فهذان الحديثان على خِفَة ألفاظهما يتضمنان عامة أحكام الأنفس و الأموال " .
وكبار الفقهاء من الصحابة ( رضي الله عنهم ) ببلاغتهم العميقة و ثقافتهم الفقهية قد ورد على لسانهم شيئ من هذه الكلم الكلية ، منها :
- ( مقاطع الحقوق ثم الشروط ) .
- ( من قاسم الربح فلا ضمان عليه ) .
وعصر التابعين لم يكن خالياً للتطرق الى إستجماع الأحكام الجزئية و التفصيلية إلى قاعدة أصلية ، منها هذه القواعد :
- ( من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه ) .
- (من أقر عندنا بشيء ألزمناه إياه ) .
وفي كتاب ( الخراج ) للقاضي أبي يوسف ( 182هـ ) و كتاب ( الأصل ) للإمام محمد الشيباني (189 هـ ) عبارات رشيقة تتسم بسمات و إشارات تتسق بموضوع القواعد من حيث شمولية معانيها ، منها :
- ( التعزير إلى الإمام على قدر عِظَم الجرم و صِغره ).
- ( كل من مات من المسلمين لا وارث له ، فماله لبيت المال ).
- ( كل من له حق فهو له حتى يأتيه اليقين على خلاف ذلك ).
- ( لا يجتمع الأجر و الضمان ) .
ومن الاسبقين في الائمة الأربعة كان لإمام الشافعي(204هـ) باع طويل في هذا المجال، ولعل السبب في ذلك هو أن هذا الفقيه يعتبر مؤسس الحقيقي لعلم أصول الفقه ، وخاصة في كتابه ( الأم ) سرد مجموعة من ( الكليات ) ، منها :
- (الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه) .
- (يجوز في الضرورة ما لايجوز في غيرها ) .
- (قد يباح في الضرورات ما لا يباح في غير الضرورات ) .
- (الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره ) .
- (ولا ينسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل إنما ينسب إلى كل قوله وعمله ) .
هذه النماذج المأثورة على الأقل دليل على وجود المادة الأولية لهذا العلم و ذلك حوالي القرون الثلاثة الأولى ، وكان حافزاً و دافعاً لنمو هذا العلم و ازدهاره فيما بعد .
ثانياً : مرحلة النمو و التدوين :
في هذه المرحلة تهيكلت القواعد الفقهية في بلورتها الفنية و العلمية ، و ذلك مع إبانة القرن الرابع الهجري ، لأن بعد ظهور ظاهرة التقليد و اضمحلال الاجتهاد و كثرة الثروة الفقهية الواسعة التي خلفها الأولون ، وضع الفقهاء أساليب جديدة للتتبع المسائل الفقهية و تدوينها حسب أبوابها و مواضعها ، ولإلحاق فروع وأحكام تفصيلية بأدلتها الأصلية و الجزئية ، وكيفية ترجيح و تأصيل آراء الفقهية ، وكل مذهب فعل ذلك على حدته. وخوفاً من الفوضى الفقهي لكثرة الفتاوى و الفروع بكثرة الوقائع و النوازل اتسع بعض الفقهاء المذهبية تدوين و اتساق المسائل مع أصولها ، من أبرزهم ما قام به الكرخي في رسالته و أبو زيد الدّبوسي تحت عنوان ( الأصول ) في كتابه ( تاسيس النظر ) .
ومما يشهد له التاريخ هو أن فقهاء الأحناف هم أسبق من غيرهم في هذا المجال أي تطوير وتدوين القواعد الفقهية و أولهم كان أبا طاهر الدَّباس حيث جمع أهم قواعد المذهب الحنفي في سبع عشرة قاعدة كلية . وهكذا بدأ هذا العلم شوطاً نحو النمو عبر القرون إلى أن و صل في قرني الثامن و التاسع الهجري قمة هرمه ، ومن أشهرما الف في القرن الثامن الهجري : ( الأشباه و النظائر لابن الوكيل الشافعي ) و ( كتاب القواعد للمقري المالكي ) و( الأشباه و النظائر لتاج الدين السبكي ) و ( المنثور في القواعد لبدرين الزَّركشي ) و ( القواعد في الفقه لابن رجب الحنبلي ) ، ومن مؤلفات قرن التاسع : ( أسنى المقاصد في تحرير القواعد للزُّبيري ) و( القواعد المنظومة لابن الهائم المَقْدسي ) و( كتاب القواعد لتقي الدين الحِصني ) و( القواعد و الضوابط لابن عبدالهادي ) ، .وكان لمؤلفات الإمامين ( إبن تيمية ) و تلميذه ( إبن القيم ) جهد جبار في هذا الطريق .
وفي القرن العاشر الهجري كتب العلامة السيوطي كتابًا في هذا المجال سماه ( الأشباه والنظائر ) وعلى هذا المنوال ومنهجه و طرازه ألف ابن نجيم الحنفي كتابًا بنفس العنوان ( الأشباه والنظائر ) و فيما بعد اصبح مصدرًا مباشرًا و غير مباشر لصياغة القواعد الكلية في مبادئ القانونية .
المرحلة الثالثة : مرحلة الصياغة القانونية :
على الرغم من جهود كبار العلماء و الفقهاء في تطوير و تدوين هذه القواعد الكلية في مؤلفاتهم مع ذلك ظلت هذه القواعد متناثرة و مبعثرة و خاصة من حيث الصياغة إلى أنِ وضعت مجلة القانونية على أساس المذهب الحنفي في عهد السطان عبدالعزيز خان العثماني عام (1869) وسميت ( مجلة الأحكام العدلية ) ففي صدرها جاءت حوالي تسع وتسعون قاعدة في إسم مادة من مادة (2) إلى (100) وبعد ذلك حتى يومنا الحاضر زاغ هذا العلم في أوساط العلمية والفقهية و القانونية بحيث ما من مدون و تقنين قانوني -خاصة في مجال القانون المدني في البلاد التي أحد مصادرها الشريعة الإسلامية - الا جاءت في موادها أو أحكامها هذه القواعد و المبادئ الكلية الفقهية .
ثالثاً : أنواع القواعد الكلية :
يمكن تقسيم و تنويع القواعد الفقهية الكلية من عدة أوجه ، ومن خلالها نسترشد أكثر لفهم لُب و مهام هذه القواعد و خاصة عند إستعمالها ، و من هذه التقسيمات :
التقسيم الأول : من حيث مصادرها :
هذه القواعد من حيث منابعها و مصادرها الأساسية الذي إستمدت معناها و حتى ألفاظها من إحدى المصدرين الآتين ، وهما :
أولاً : النص الشرعي : مجموعة منها مأخوذة عن النصوص الشرعية وخاصة من نصوص الأحاديث النبوية ، كقاعدة : ( لا ضرر و لا ضرار ) و ( جناية العجماء جبار) و ( البينة على المدعي و اليمين على من أنكر ) .
ثانياً : الاستنباط الاجتهادي : وذلك بالتعليل التشريعي للنصوص الواردة بعد الاستقراء تستنبط هذه القواعد ، مثلا كقاعدة ( الأمور بمقاصدها ) مستنبطة من مجموعة من النصوص من أبرزها حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) ، وقاعدة ( العادة محكمة ) من الأية الكريمة ( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالَمَعْروف ) ، و ( المشقة تجلب التيسير ) من الآية ( يريدُ الله بِكم اليُسْر و لايُريدُ بِكُمْ العُسْر ) و ( لا يُكَلِفُ الله نفسًا إلا وسْعَها ) .
التقسيم الثاني : من حيث كُلِّيتها :
والمقصود بالكلية هنا مدى اجتماع فقهاء الشريعة الأسلامية عليها أو عدم الاتفاق عليها، و هناك نوعان من القواعد من هذا الوجه :
أولاً : القواعد الكلية : وهي تلك القواعد التي إتفق جميع الفقهاء عليها دون خلاف ، و أشهرها القواعد الخمس الكبرى التي هي بمثابة أركان الفقه الإسلامي وهي : ( الأمور بمقاصدها ) و ( المشقة تجلب التيسير ) و ( الضرر يزال ) و ( العادة محكمة ) و (اليقين لا يزول بالشك ) .
ثانياً : القواعد الأغلبية : وهي تلك القواعد التي أخذ بها بعض الفقهاء دون بعض الاخر أو ما هو مشهورة عند بعض المذاهب أو عند مذهب دون مذهب آخر ، وهذه القواعد هي أكثرية القواعد الفقهية ، منها : ( الأجر و الضمان لا يجتمعان ) و (يضاف الفعل إلى الفاعل لا الآمر ما لم يكن مجبرا ) و ( الجواز الشرعي ينافي الضمان ) و ( المبشر ضامن وإن لم يتعمد ) .
التقسيم الثالث : من حيث العلم الذي تدخل القاعدة فيه :
فالقواعد الفقهية من حيث صياغة ألفاظها و مدلول معانيها مستمدة من علم من العلوم الشرعية و الآلية الأخرى ، ولكنها بعد جريانها مجرى القواعد الفقهية صارت تندرج هذه القواعد ضمن القواعد الفقهية الكلية ، من هذه القواعد :
أولاً: القواعد الأصولية :
- لا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
- ما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه.
- الأحكام تدور مع علتها وجودًا و عدمًا.
- إذا تعارض المانع و المقتضي قدم المانع.
ثانيًا : القواعد اللغوية البلاغية :
- كان للدوام غالبًا .
- الإشارة المعهودة للأخرس كالبيان باللسان .
- السؤال معاد للجواب .
- الجمع المضاف و المفرد المضاف للعموم .
- النفي للوجود ثم للصحة ثم للكمال .
ثالثًا : القواعد المنطقية البلاغية :
- اليقين لايزول بالشك .
- إن المبدل له حكم المبدل له .
- المطلق يجري على إطلاقه .
رابعًا : القواعد المقصدية : وهي تلك القواعد الداخلة في علم مقاصد الشريعة
وفلسفتها :
- الإسلام يجب ما قبله .
- المشقة تجلب التيسير .
- درء المفاسد أولى من جلب المنافع .
- إذا تعارضت المصالح قدم الأعلى ، أما إذا تعارضت المفاسد قدم الأدنى .
خامسًا : قواعد الحديثية :
- إن فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خالف النهي الصريح كان لبيان الجواز .
- جواز قطع النفل بعد الشروع فيه .
- خبر الآحاد الصحيح حجة مطلقاً .
التقسيم الرابع : القواعد من حيث اهتمامها بالأحكام :
فالقواعد و الأحكام كما هي معروفة عند القانونيين على نوعين إما قواعد موضوعية بحتة ، أو قواعد إجرائية و شكلية التي تساعد على كشف خفايا القضية توصلاً إلى المحاكمة العادلة و من ذلك الإجراءات الشهادة و الإقرار و الإثبات و البينة وغيرها ،
وعلى هذا النمط فالقواعد على نوعين :
أولاً : قواعد الموضوعية : وهي إما شاملة على جميع أبواب المسائل الجنائية و المدنية و الأحوال الشخصية و التجارية و حتى الدولية ، أو خاصة بنوع من هذه المسائل ، ومن أمثلة قواعد الموضوعية الكلية :
- الأجر و الضمان لا يجتمعان .
- إذا إتسع الأمر ضاق .
- إذا بطل الأصل يصار إلى البدل .
- إذا زال المانع عاد الممنوع .
- الإذن العرفي بطريق الوكالة كالإذن اللفظي .
- التعزير إلى الامام على قدر عظم الجرم وصغره .
- التعين بالعرف كالتعين بالنص .
- العقد يراعي مع الكافر كما يراعي مع المسلم .
- الغرم بالغنم .
- كل أمر خالف أمر العامة فهو عيب يرد عليه .
- كل ما كان سببًا للفتنة فإنه لا يجوز .
ثانيًا : القواعد الشكلية : وهي القواعد المتعلقة بإجراءات المرافعات و المحاكمة العادلة واثبات الادلة ، كهذه القواعد :
- الأصل أن للحالة من الدلالة كما للمقالة .
- الأصل أن من ساعده الظاهر فالقول قوله و البينة على من يدعي الظاهر .
- الأصل براء الذمة .
- الإقرار حجة قاصرة .
- البينة حجة يجب العمل بها ما أمكن .
- التحري يقوم مقام الدليل الشرعي عند إنعدام الأدلة .
- التهمة تقدح في التصرفات .
- الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة .
- دليل الشيء في أمور الباطنة يقوم مقامه .
- الظن الغالب ينزل منزلة التحقيق .
- القاضي مأمور بالنظر و الإحتياط .
رابعًا : تمييز القواعد الكلية من مصطلحات متقاربة منها :
هناك مجموعة من المصطلحات الأخرى المستعملة في علم الفقه و العلوم الأخرى متقاربة من القواعد الفقهية من حيث الاستعمال حتى من حيث اللفظ ، لذا لابد من التنويه الى الفروقات الأساسية بين القواعد الفقهية الكلية و هذه المصطلحات .
1/ القاعدة الفقهية و الضابط الفقهي :
القاعدة الفقهية تميز وتختلف عن الضابط الفقهي بأنها أعم و أشمل بحيث تجمع فروعاً كثيرة من أبواب شتى ، مثل قاعدة ( الأمور بمقاصدها ) نأخذ منها في البيع أن المقاصد معتبرة، ونأخذ منها في الجنايات الفرق بين القتل العمد والقتل الخطأ ، وفي العلاقات الدولية حسن النية والمجاورة و المبادرة للسلام .. وغيرها ، أما الضابط الفقهي يجمع الفروع من باب واحد فقط بل أضيق من ذلك من موضوع واحد في باب واحد ، مثلا الضابط الفقهي ( كل ما لايجوز أكله أو شربه من المأكولات و المشروبات لا يجوز بيعه و لايحل ثمنه ) فإن هذا الضابط يحدد في موضوع عقد البيع محل العقد من باب العقود ضمن مادة المعاملات و الأحكام المدنية و المالية . لذا أطلق إبن السبكي في كتابه ( الأشباه و النظائر ) على هذه الضوابط الشرعية اسم ( القواعد الخاصة ) مقابلة لقواعد الكلية الفقهية العامة .
۲/ القاعدة الفقهية و القاعدة الأصولية :
فـالقاعدة الفقهية تبحث عن نفس الحكم المتعلقة بالأفعال أي مدار بحثه الفقه و تجميع فروعها ، أما القاعدة الأصولية تبحث عن الأدلة التي تبني عليها الحكم كقاعدة النهي للتحريم و قاعدة الأمر للوجوب .
۳/ القاعدة الفقهية و النظرية الفقهية :
النظرية الفقهية أشمل وأعم من القاعدة الفقهية حيث تتضمن الأولى قواعد كلية فقهية مع مجموعة من الأحكام مع أركانها وشروطها ، فمثلا تحت ( نظرية الضرر ) يمكن تجميع هذه القواعد الفقهية : ( لا ضرر و لا ضرار ) و ( الضرر يزال ) و (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ) و ( الضرر لا يكون قديماً ) و ( يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ) و ( الضرر لا يزال بمثله) .
4/ القاعدة الفقهية و القاعدة القانونية :
القاعدة الفقهية الكلية والتي هي بمثابة المبدأ القانوني العام تكون أساساً لمجموعة من القواعد القانونية و مع ذلك استجماعاً للأحكام أيضًا ، أي إنها أعم وأشمل من القاعدة القانونية .
وقد يقع في الخطا عند إتصاف القاعدة القانونية بأن من خصائصها ( العمومية ) لذا تكون مقابلة ( القاعدة الكلية ) ، وهذا ما هو إلا لبس لفظي و فهمي ، لأن العمومية هنا تأتي بمعنى شمولية القاعدة القانونية في التطبيق على جميع الأشخاص و أفراد المجتمع الذين تشملهم القاعدة دون تخصيصها لشخص معين بالاسم و العنوان ، فمثلا قاعدة تحديد سن الرشد بثمانية عشر سنة كاملة تطبق على كل آدمي في ظل القانون المدني العراقي ، وهذا يبعد كلياً عن مفهوم الشمولية و العمومية المقصودة من القاعدة الفقهية الكلية .
المطلب الثاني
أهمية القواعد الكلية ومدى صلاحيتها في بناء الأحكام
إن العلم بهذه القواعد و دراستها وتوظيفها في نصوص قانونية له فوائد غزيرة ، منها:
1/ له دور عظيم في تيسير الأحكام القانونية و مناقشاتها الفقهية المفصلة كما يبرز ذلك من خلال تطبيقات هذه القواعد في نطاق الفقه الإسلامي ، حيث تكون خير معين على ضبط الأحكام ولَمِّ شَعْثها ، وتنظيم الفروع الكثيرة في سلك واحد متسق تحت قاعدة واحدة وكل ذلك بكلمات وجيزة و يسيرة . فمثلاً جميع قواعد الأحكام المتعلقة بإزالة الضرر في حالة وقوع الضرر وفرض التعويض كوسيلة لإزالة هذا الضرر نجد هذه الاحكام في أكثر من ( 10 ) مادة من المواد القانون المدني العراقي ، وكلها يمكن جمعها تحت القاعدة الفقهية المشهورة ( الضرر يزال ) ، وكذلك جميع أحكام الحرج والضيق و التكاليف و الظروف الطارئة تحت عنوان ( المشقة تجلب التيسير ) .
2/ انه وسيلة تساعد الباحث الشرعي و القانوني على الحفظ و الضبط للمسائل المتناظرة و المتشابهة الكثيرة حيث تسهل عنده كيفية استحضار الأحكام . فمثلا ليس من السهل حفظ جميع النصوص الواردة المطابقة من حيث صيغة الإطلاقية بين (1383) مادة قانونية في القانون المدني العراقي ، ولكن بمجرد قاعدة ( المطلق يجري على إطلاقه مالم يتقيد بنص أو دلالة ) تمكينه من معالجة هذه النصوص المتشابهة الكثيرة لان هذه القاعدة تكون بمثابة معيار للضبط الكلي .
3/ انه يخلق عند الباحث الملكة الفقهية وتجعله قادرًا للإلحاق و التخريج لمعرفة جميع الأحكام القائمة و ينيرأمامه الطريق لدراسة الابواب الحُكمية والفقهية غير المتناهية ، حيث تكون مبعث حركة دائمة ونشاط متجدد لاستنباط الحلول للوقائع القانونية الجديدة . فمثلا كل تصرف قانوني أياً كان فاعله وتحت أي مسمى إذا توافرت فيه أركان و شروط الثابتة و المقررة قانونيًا للعقد من العقود ، يخضع هذا التصرف لأحكام هذا العقد و هذا ما قررته القاعدة القائلة : ( العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للإلفاظ والمباني ) وهكذا .
4/ انه يمكّن الباحث على عملية تجميع الموضوعات المختلفة تحت عنوان موضوع واحد ومن ثم حصرها تحت قاعدة كلية واحدة ، لإنه يغزي الباحث للاطلاع على جميع كليات موضوع ما ومعرفة فروعها واستثناءاتها ، وبذلك يكون خير وسيلة لدفع التعارض و التناقض بين الأحكام ، ولعل هذا من الأسباب التي دفعت المشرع العراقي الى ادراج بعض القواعد تحت عنوان ( تفسير العقد ) من مادة (155) الى (166) في القانون المدني العراقي ، لان من المعروف ان من مهمات التفسير هو دفع التعارض . فمثلا بقاعدتي ( الأصل في الكلام حقيقة) و ( إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز ) يمكن معالجة و تفسير مضمون و جوهر الألفاظ الواردة في الصيغ القانونية و منها العقود .
5/ فالباحث بإستناده على هذه القواعد الكلية يستطيع الوقوف على أسرار و حِكَم قريبة و متباعدة للنصوص الواردة و احدى أوجه السياسة التشريعية . فمثلا عند العلم بقاعدة (درء المفاسد أولى من جلب المنافع ) في المادة (
من القانون المدني العراقي يفهم سر منع وتحريم التعامل بأموال ناقص الأهلية و المحجور من قبل ذوي شأنهم ، لإنه وإن كانت هذه التصرفات وخاصة الدائرة بين النفع والضرر فيها خير للناقص أو عديم الأهلية ولكن قد يكون فيها الضرر له ، و في موازنة هذه الحالة الدفع كان بالمنع و ذلك دفعاً للمفسدة ، لانها هي اولى من جلب المنفعة في حين إجتماعهما . وهكذا يقاس .
6/ هذه القواعد من أحد قسمي الأصول و مبادئ الشريعة الأسلامية ، والذي يلزم القاضي بنص القانون أن يطبقها في حالة فقدان نصوص التشريعية والعرف للواقعة النازلة .
فأن هذه الفوائد والمهمات التي وقفنا عليها لا تقتصر فائدتها للباحث القانوني فقط بل تتسع لكل من دارس وقاضٍ وحتى مشرع يستفد منها ، وخاصة في ما يسمى بعملية بناء الأحكام المستجدة على التصرفات و الوقائع القانونية الجديدة ومعرفة كيفية بناء الأحكام القائمة على هذه القواعد التي هي بشكل من الأشكال تكون ضمن مواد بحثنا هذا .
ولكن مع ذلك لابد أن نقف على إحدى المهمات الأساسية لهذه القواعد ، وهي ما مدى صلاحية هذه القواعد في بناء الأحكام الجديدة ؟ و هل هي صالحة لأن تكون دليلاً و مصدر لاستنباط الأحكام منها ؟
من الظاهر عند بعض فقهاء الشريعة عدم جواز إستناد الأحكام والفتاوى الى هذه القواعد وحدها كمصدر مستقل و أصلي ، بل لابد من ترجيحها بنص صريح بحيث يستند الحكم اليه ، وهذا ما صرح به كل من الجويني في ( الغياثي ) و الحموي في (غمز عيون البصائر ) و العلامة علي حيدر في ( درر الحكام شرح مجلة الأحكام ) .
ولابد من القول بأن هذا الرأي لا يأخذ على إطلاقه بل لابد من بيانها بشئ من التفصيل وذلك من وجهين :
اولاً : في الشريعة ليس هناك أحد ينكر بأن مصدر الأحكام شرعه الشارع سبحانه و تعالى على عباده ، ولكن التفاصيل من حيث الأخذ به و كيفية تطبيقها تركها للعباد ضمن إطار و ضوابطة ثابتة ، وكذلك المشرع في القوانين الوضعية قد ألزم الحاكم نصيًا بتطبيق القانون و المصادر الضرورية لتفسير النصوص وفهمها و خلق الأحكام الجديدة بها .
وهذه القواعد الفقهية سواءاً كانت تامة من حيث الكلية كالقواعد الخمس الكبرى أو غير تامة لا ينقصها صفة الأغلبية ، و كل من هذه القواعد إلا ولها أصل و مصدر وهو إما (النص الشرعي) أو ( الإستنباط الإجتهادي ) مستخلصة من فروع الحكمية الثابتة بنصوص النقلية ، ولذا قد تسمى هذه القواعد بأنها تشبه الأدلة .
ثانياً :إن تطبيق الفقه النظري و الواقعي العملي أو كما يسمى بـ( القضاء ) ، كثيراً ما يأخذ بهذه القواعد كنصوص تعليلية أو دليلية لإستنابط الأحكام ، وهذا ما نجدها مرات في الكتب الفقهية والقضائية ، من أمثلته :
- عندما سئل الشافعي في مدى جواز تعين رجلاً أجنبياً مع أمراة التي فقدت زوجها في حالة السفر؟ فاجاب : بانه يجوز إستناداً على ( إذا ضاق الأمر إتسع ) .
- ورجح النووي في كتابه المجموع قاعدة ( الأصل بقاء ما كان على ما كان ) على حديث ضعيف .
- و قولي القاضي شريح ( من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه ) و ( من ضمن مالاً فله ربحه ) في بعض حكمه على المسائل المعروضة عليه .
- ومن هذه المبادئ في القضاء كما جاءت في كتاب ( مبادئ القضاء الشرعي في خمسين عاما) :
( الإقرار حجة ملزمة بنفسه لا يحتاج فيه إلى القضاء ) و ( الحقوق لا تسقط بتقادم الزمان وإن طالت المدة ) و ( الأصل في ترجيح البينات إنما هو كونها مثبتة خلاف الظاهر ) و (لاعبرة بالظن البين خطؤه ) ...
وهكذا للقواعد الكلية الصلاحية في خلق وبناء الأحكام الجديدة وما لاخلاف فيه تقريبًا هو دورها في الأحكام القائمة وإستجماع الفروع تحتها و التي هي من أهم مهاماتها .
المبحث الثاني
اوجه بناء الاحكام المدنية على القواعد الكلية
سبق وان ناقشنا مدى اهمية هذه القواعد في المبحث الاول فالنتيجة بان هذه القواعد لها دور مهم في استجماع الاحكام و اندراج الفروع تحتها و الاعتماد عليها في بناء الاحكام، وفي هذا المبحث نبين اوجه بناء الاحكام المدنية المالية على هذه القواعد ، وذلك بتحديد موقع الشريعة الاسلامية في القانون المدني العراقي تشريعياً و تاريخياً و موضوعياً و استرشادياً ، ومن ثم التطرق دور القواعد الكلية الفقهية في بناء احكام المدنية الموجودة . و هذا مانبحثه في مطلبين ، وهما :
المطلب الاول : دور الشريعة الأسلامية في بناء الأحكام المدنية عموماً .
المطلب الثاني: دور القواعد الكلية في عملية بناء الاحكام المدنية .
المطلب الاول
دور الشريعة الاسلامية في بناء الأحكام المدنية عموماً
لما كانت لهذه الشريعةالسمحاء من صفاتها المرونية مع أصولها الثابتة ، بحيث بامكانها معالجة جميع النوازل و القضايا في جميع الأزمنة و الأماكن المختلفة ، لذا منذ عام (1932) قررالمؤتمر الدولي في ( لاهاي ) للقانون المقارن أن الشريعة الاسلامية أحد الشرائع الخمس التي هي مصدر جميع القوانين العالمية تشريعًا و فقهياً ، وكان للقوانين العراقية الحظ الأوفر لجعل هذه الشريعة مصدراً هامًا و خصبًا في عملية بناء قواعدها و أحكامها القانونية ، خاصة في مجال الأحكام المدنية ومايتصل بالمعاملات المالية ، وكان هذا التاثير من عدة قنوات متنوعة ، منها :
اولاً : الشريعة الاسلامية باعتبارها مصدرًا تاريخيًا للاحكام المدنية :
المقصود بالمصدر التاريخي أي المرجع الذي استقى منه المشرع احكامه التشريعية ، وهذه المصدر يساعد كثيراً في كشف الحقائق و الخفايا للقواعد القانونية خاصة لما كان التاريخ بالنسبة للعلوم الاجتماعية ( كعلم القانون ) المختبر العملي ، لذا كثيراً ما يساعد المصادر التاريخية كوسيلة لتفسير غموض النصوص القانونية .
فالقانون المدني العراقي النافذ حاليًا الصادر عام (1951) برقم (40) مصدره التاريخي مزج بين- بالدرجة الاولى - الشريعة الاسلامية ثم الشرائع الغربية و القانون المدني المصري ، فاما بالنسبة للشريعة الاسلامية جُعلت مجلة الأحكام العدلية الصادرة عام (1869) على المذهب الحنفي و كتاب ( مرشد الحيران لقدري باشا ) مصدرين تاريخيين اسلاميين مباشرة ، و لم يقتصر على هذا بل جُعل الفقه الاسلامي بمذاهبه المختلفة ايضا ينبوعًا و اصلاً تاريخيًا في عملية البناء . و من المعلوم ان جزءاً من التقنين المدني المصري مستمدة من الفقه الاسلامي ، وهكذا نرى ان الشريعة الاسلامية كمصدر تاريخي كيف ساهمت في بناء التقنين واحكام القانون المدني سواء بطريق مباشر أو غير مباشر .
ثانياً : الشريعة الاسلامية باعتبارها مصدراً موضوعياً مادياً للاحكام المدنية :
المصدر المادي أو الموضوعي أو الحقيقي يعني ؛ المادة الاولية التي تزود القاعدة القانونية مضمونها . ومعرفة المصدر المادي تساعد القانوني على معرفة طبيعة وفلسفة القانون .
فبالرجوع الى نصوص القانون المدني العراقي تبرز مدى حضور الفعلي للشريعة الاسلامية في روح هذا القانون ، بل صرح الاستاذ السنهوري – وهو من واضعي التقنين المدني العراقي - بان جوهر القانون المدني و مادته و موضوعه كله تقريبًا من الفقه الاسلامي و لكن ضمن صياغة و تقسيمات التقنيات الغربية ، حتى جاء في فقرة (
من ( الاسباب الموجبة للائحة القانون المدني العراقي ) بان الهدف من المزج بين الشريعة الاسلامية و التقنيات الغربية في التقنين المدني ، هو احياء الفقه الاسلامي و استحداثه بحيث ترده الى ربيع حياته من خلال الدراسة المقارنة . ويقول عبدالرحمن البزاز : " الشريعة الاسلامية مصدر حي و ذا شان الرفيع لاستنباط مواد المدنية منها لا من حيث اعتبارها مصدرًا تاريخيًا بل كمصدر مادي " .
ومن الموضوعات البارزة في التقنين المدني المستمدة من الشريعة الاسلامية ؛
نظرية بطلان العقد و توقفه ، احكام الاتلاف ، احكام الغصب ، عيوب الرضاء ، حوالة الدين ، رهن الحيازة ، الدين المشترك ، نظرية العامة للالتزام ، نظرية التعسف في استعمال الحق و غيرها من المسائل التفصيلية ، بالاضافة الاخذ بالنزعة الموضوعية التي يتسم بها الشريعة الاسلامية .
ثالثاً : الشريعة الاسلامية باعتبارها مصدرًا رسميًا احتياطياً مباشراً :
المصدر الرسمي هو الطريقة التي تنفذ القاعدة القانونية أو الوسيلة التي تخرج بها الى حيز الوجود بحيث تكون واجبة التطبيق على القاضي ، وهذه المصادر تعتبر المصادر الالزامية للتطبيق . وعلى اساس ترتيبها و قوة تنفيذها تعطي للمصدر الصفة الاصلية و الاحتياطية .
وبموجب المادة الاولى من القانون المدني العراقي على القاضي تطبيق التشريع اولاً كمصدر رسمي اصلي ، ثم العرف كمصدر احتياطي الاول ، ومن ثم مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة كمصدر احتياطي بدرجة ثانية ، ورابعاً بمبادئ العدالة ، وأخيراً قد يولج الى الفقه والقضاء كمصدر غير الرسمي .
مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرسمي الاحتياطي الثالث الواجب التطبيق بعد فقدان النص التشريعي و العرف الجاري للواقعة النازلة . واعطاء هذه المرتبة للشريعة من حيث المرجعية القاضي ملزم به ، وكل ادعاء بانه لا يوجد نص للتطبيق من قبله هو حجب لاحقاق الحق و منع لمواكبة العدالة.مجرها . والشريعة الاسلامية في هذه المرتبة