الفرق بين كتب الفقه وكتب الحديث
صالح آل الشيخ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من المسلَّم به لدى كل طالب علم حريص عليه أن طلب العلم هو غاية ما يحصله المرء لنفسه من الخير، لأن العمل تابع للعلم، والعمل بلا علم لا ينفع، لأن من شرط صحة العمل وصحة النية الإخلاص والعلم بما يميز به عمله ويفرق به بين العادة والعبادة، فكثيرون يعملون أعمالاً هي من جهة العادات، أو قد يعملوها من جهة الجبلة والطبيعة أو بما جرى عليه أهله ومجتمعة، لكن العلم يحمله على أن يفرق بين نية العمل الذي يتقرب به إلى الله - جل وعلا - وبين العمل الذي يعمله عادة والعمل الذي يريد به أن يكون وسيلة إلى أمر محبوب.
وطالب العلم في طريقه في طلب العلم يحتاج إلى فرق مهم وهذا الفرق كثيرون لم يدركوه، وهو الفرق بين تناول كتب الفقه وكتب الحديث، كتب الفقه فيها كلام على المسائل الفقهية وفيها الأدلة وفيها الخلاف. وكتب الحديث فيها أيضاً الكلام على المسائل الفقهية وفيها الأدلة وفيها الخلاف والترجيح. فمن جهة النظر إلى المحتوى قد يتشابه هذا وهذا ولهذا يشتكي كثير من طلاب العلم الذين في الكليات الشرعية، كلية الشريعة أو كلية أصول الدين في الرياض أو في نحوهما يشتكون من أنهم إذا دخلوا الكلية وابتدأو في دراسة الفقه والحديث، يشتبه عليهم تقرير هذا وتقرير هذا، يشتبه عليهم شرح الأستاذ الذي يدرسهم الفقه مع شرح الأستاذ الذي يدرسهم الحديث، من جهة أن كلاً منهما يورد أدلة وخلافاً وتصويراً للمسألة وربما كان إيراد هذا يختلف عن إيراد ذاك من جهة الاستيعاب أو الاستدلال أو بيان وجه الاستدلال أو استخدام علوم الآلة أو الترجيح... إلى غير ذلك، وهذا يجعل طالب العلم في كثير من الالتباس في جهة تحصيل العلم، وهل يطلب علم الأحكام من كتب الحديث أو يطلبها من كتب الفقة؟ وبسبب عدم معرفة كيفية تناول الأحكام هل هو من كتب الحديث أم من كتب الفقه وما ميزة هذه وهذه؟ وهل هذه تعارض هذه أم لا؟ بسبب عدم العلم بهذه المسائل، حصل نقص عند كثيرين من طلاب العلم، وما اكتمل ملكتهم في العلم من جهة التكامل بين هذين العلمين العظيمين، الفقه والحديث.
لهذا نقول: إن كتب الحديث كما هو معلوم سابقة لكتب الفقة وأول ما دون العلم دون على جهة الرواية والإسناد، حتى ما كان من فتاوى ووقائع وأسئلة نقلت في مصنفات أهل العلم المختصة أو العامة نقلت بالأسانيد، فعلم الحديث من حيث هو رواية ودراية يشتمل على إسناد وعلى متن، وهذا المتن قد يكون مرفوعاً للنبي - عليه الصلاة والسلام - وقد يكون قولاً لصاحب أو قولاً لتابعي أو ما دون ذلك.
يستعمل كثير من أهل الحديث هذه الكلمة: رواية ودراية، وفي تفسير الرواية والدراية اختلاف، فمنهم من يقول: الرواية هي نقل الحديث بالإسناد. والدراية هي تمحيص هذا الإسناد من حيث الصحة وعدم الصحة، من حيث هل هو مستقيم أم غير مستقيم؟ هل هو معلول أم غير معلول؟ هل يحتج به أم لا يحتج به؟ وهذا قول طائفة كثيرة من أهل العلم.
وآخرون يقولون: الرواية راجعة إلى النقل، والدراية راجعة إلى فقه الحديث، وفقه الحديث هو درايته. والرواية هي النقل، فيدخل على هذا في النقل مصطلح الحديث، يستعمل مصطلح الحديث، والنظر في الرجال. وتكون الدراية هي الفقه، يعني النظر في المتن.
هذا كان سابقاً، ولهذا مصطلح الحديث سابقٌ لأصول الفقه، وأصول الفقه أتت بعده من جهة التصنيف، من جهة تقعيد الفن، ومن جهة الاستعمال أصول الفقه سابقة لأصول الحديث، للمصطلح، لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط، وهي موجودة في زمن النبي - عليه الصلاة والسلام - قبل أن يكون ثَمَّ أسانيد.
لهذا تنظر إلى علم الفقه وعلم الحديث إلى أنه لا انفصال بينهما في الحقيقة، فالفقه هو فقه الأحكام الشرعية وهذا يكون مبنياً على أدلة، ومن الأدلة السنة. ينتج من ذلك أن أدلة الفقيه أعم من أدلة المحدث، بمعنى أن الكتاب الذي يعرض لمسائل الفقه تكون أدلته أوسع من أدلة الكتاب الذي يعرض لفقه الحديث، لِمَ؟ لأن من نظر في فقه الحديث يكون الدليل هو الذي يتكلم عليه من الحديث، عنده حديث في البلوغ ويشرحه، أو حديث في منتقى الأخبار ويشرحه، مثل نيل الأوطار، أو حديث في البخاري يشرحه أو نحو ذلك، فيكون شرحه مبنياً على هذا الحديث، واستنباطه للحكم بما في هذا الحديث من الحكم.
أما الفقيه فإنه يستنبط الحكم من عدة أدلة، قد يكون الدليل نصاً من الكتاب أو السنة، وقد يكون إجماعاً، وقد يكون قياساً شمولياً، وقد يكون قياس علة، وقد يكون قول صاحب، أو قول إمام... الخ
نرجع إلى تأصيلها فنقول: المقصود من هذا أن كتب الفقه تختلف عن كتب الحديث من جهة الأدلة.
إن كتب الحديث إذا رجعنا إلى أولها فتجد أن الإمام يبوّب على الحديث بما فيه من الفائدة، لكن لا يرى الاختلاف الذي فيه، فمثلاً الإمام البخاري في تبويباته يبوِّب على فقه الحديث الذي عنده، أبو داود في تبويبه يبوّب على فقه الحديث الذي عنده، الترمذي النسائي ابن خزيمة...الخ يبوِّبون ناظرين في التبويب - والتبويب هو عبارة عن الحكم أو الفائدة - راجع إلى فقههم إلى هذا المتن.
لكن إذا نظرت في المسألة نفسها نظرتها في كتب الفقه فتجد أن الفقيه يستدل بعموم آية، أو بمفهوم آية، أو يستدل بعدد من الأحاديث، أو يستدل بقاعدة أو أقوال الصحابة.. الخ.
رجع الأمر إلى أنه في الزمن الأول قبل شيوع المصنفات وشروح الحديث المطولة، المحدِّث يستنبط بناءً على هذا المتن الذي عنده، ولا ينظر إلى جميع أدلة المسألة، لا ينظر إلى كل ما في المسألة من الأقوال، لهذا يدخل في نظره إلى هذا المتن فيستنبط منه، أما المفتي أو الفقيه إذا أراد أن ينظر في هذه المسألة التي تناولها الحديث فإنه يستحضر أشياء أخر، لهذا صار كلام الفقهاء يختلف عن كلام طائفة من أهل الحديث، لِمَ؟ لأنه قد يكون المحِّدث ينظر إلى هذا المتن باستنباط ما فيه فوائد من هذا المتن دون النظر إلى أن هذه الفائدة هل هي الحكم في نفس الأمر أم أنه يأتي معارض فينظر إليه من جهة أخرى، وقد ذكرت لك فيما مضى أن الأقوال المتضادة أو الأقوال المتقابلة في الفقه، فإنه يكون القول أرجح إذا كان المعارض له أقل، فإن القولين المختلفين في الفقه لا تظن أن أحد القولين له دليل والآخر ليس له دليل، هذا نادر، بل الأكثر - وجُل المسائل - يكون هذا القول له أدلته وهذا القول له أدلته، ولكن أي القولين يكون أرجح؟ القول الأرجح هو الذي يكون الاعتراض على ما استدلَّ به أصحابه أقل من الاعتراض على القول الآخر.
وهذه فائدة رصينة مهمة يحتاجها الناظر في كتب الفقه وكتب الحديث جميعاً.
هذه الأقوال المتقابلة والاختلافات جاءت نتيجة إلى نظر العلماء في المسائل الفقهيه، بعد ذلك صنفت متون الفقه ثم صنفت المطولات في الفقه، ثم ظهرت شروح كتب الحديث، شروح كتب الحديث استفادت من كتب الفقه، فأوائل كتب الفقه التي بسطت القول في المسائل الفقهية الخلافية كتب ابن المنذر، ومثلها مع شيء من الاختلاف المصنفات، مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق وأشباه هذه، فتجد أن هذه بسطت القول في المسألة بذكر أقوال العلماء المصنفات بدون ذكر أدلتهم لأنها رواية، ومثل كتب ابن المنذر تجد أنه يذكر القول ويذكر دليله.
ظهرت كتب الفقه بعد ذلك فيها ذكر الخلافيات وفيها دليل كل قول إذا كان الكتاب في الفقه عاماً مقارناً يقارن فيه صاحبه بين المذاهب، أما إذا كان كتاب مذهب خاص فإنه لا يورد أدلة الأقوال الأخرى.
خذ مثلاً كتاب ابن حزم"المحلى بالآثار شرح المجلى بالاختصار"وهو كتاب ألّفه للمبتدئ من طلاب العلم كما نص عليه في أثناء كلامه على صور صلاة الخوف، قال:"وإنما كتبنا هذا الكتاب للمبتدئ من طلاب العلم وتذكرة للفقيه، وهذا واقع من جهة أن الناظر فيه يجد أنه يذكر أقوالاً متعددة بالإسناد، فهو عبارة عن جمع ما يراه ناصراً لأصل المسألة، وقد يذكر الخلاف ويذكر الترجيح، أما الاستيعاب فإنه في كتب مطولة أُخر.
في هذا الكتاب مثلاً هل هو كتاب فقه أم كتاب حديث، هو على طريقة كتب ابن المنذر من جهة أنه يذكر المسألة ويذكر الاستطراد بذكر الأدلة تارة بالإسناد، وقليلاً بلا إسناد.
إذا نظرت في هذا الكتاب يحصل عندك شيء من التردد في فهم المسألة، لم؟ لأنه جاء تقرير المسألة مع بيان الخلاف مع الأسانيد مع الدراية مع الاستنباط مع رأي ابن حزم الأصولي، مع رده على المخالفين.
مثال آخر: كتب ابن عبد البر"التمهيد""والاستذكار"وغيرها، شروح الموطأ، لكنها شروح نظر فيها إلى المسألة لا إلى المتن، فهو قد يشرح المتن ثم يخرج من المتن إلى المسألة ثم يفصل الكلام في المسألة كأنها مسألة فقهيه مستقلة، وهذا نوع من شروح كتب الحديث نقابله بكتاب ابن حزم، فكتب ابن عبد البر وكتاب ابن حزم متقابلان، هذا له طريقته وهذا له طريقته، إذا نظرت في هذا وهذا وجدت أن طريقة الفقهاء موجودة في كتاب ابن حزم، وطريقة المحدِّثين موجودة في كتاب ابن عبد البر، في الجملة.
بخلاف ما يظنه كثيرون، أن كتاب ابن حزم هو كتاب حديث، هو كتاب فقه، لكن فقه بناه على الأثر بتوسع، فكأنه صوّر المسائل الفقهية كمتن فقهي ثم استوعب ما في المصنفات وما نقل عن السلف في هذه المسائل ونظر فيها نظراً مختصراً، فهو كتاب فقه توسع فيه في الاستدلال.
تطورت المسألة من جهة التاريخ فدخلنا إلى مرحلة"المغني لابن قدامه، وما ماثله، مثل"المجموع شرح المهذب"للنووي، كتابان متقاربان من جهة أنهما كتابان فقهيان منهجهما واحد من جهة الفقه، هذا المغني كتاب حنبلي يعرض فيه إلى الأدلة والخلاف، وكتاب النووي كتاب شافعي يعرض فيه لتأصيل المسألة والأدلة والخلاف، يمتاز كتاب النووي عن كتاب ابن قدامه بأن فيه استيعاب للغويات، وفيه الحكم على كثير من الأدلة من جهة الإسناد، يقول: هذا إسناده صحيح، إسناده قوي، إسناده ضعيف...الخ، وله ترجيحاته المخالفة للمذهب، كما أن ابن قدامة له ترجيحاته المخالفة للمذهب.
في مقابلتهما نذهب إلى كتب الحديث في ذلك الزمان"فتح الباري"مثلاً - بعده بزمان - فيه عرض المسألة بحسب إيراد البخاري واستيعابه للأدلة أو للخلاف هو بحسب حاجة المسألة إلى ذلك.
فنخلص من هذا العرض الموجز إلى أن كتب الفقه وكتب الحديث يخدم بعضها بعضاً، فمن نظر في شروح كتب الحديث وأراد أن يستفيد، فلا بد أن يكون مؤصلاً في الفقه، فإذا أصل في الفقه كان نظره في كتب الحديث جيداً، لِمَ؟ لأن كتب الحديث ما تصوّر المسألة، وإنما تبني على أن المسألة صورتها واضحة، وأما كتب الفقه فهي تصور المسألة ثم تذكر دليلها - هذا واحد.
الثاني: أن كتب الحديث ليس فيها استيعاب للأدلة على اختلافها، لكن كتب الفقه تجد أنه يذكر دليل المسألة إذا كان من الكتاب أو السنة أو القياس أو القواعد الخ ذلك. يذكر كل ما في الباب عنده من أدلة في هذه المسألة؟
الفرق الثالث: أن كتب الحديث فيها إيراد المسألة بحسب مجيء هذا الحديث دون تكامل للباب، يعني الباب في كتب الحديث لا يتكامل في ذهن طالب العلم، فإذا نظرت مثلاً في كتاب الجهاد في البخاري، أو الإمارة في مسلم، أو نظرت في باب من الأبواب في كتب الحديث فتجد أن هذه الأبواب فيها من الفوائد بقدر مجيئها في السنة لأنه مبني على الاستدلال من السنة فقط، لكن كتب الفقه يكون فيه عرض الباب بذكر المسائل التي تدخل تحت هذا الباب ودليلها من القرآن أو من السنة - وهو موجود في كتب الحديث- أو من القياس أو من القواعد أو من قول صاحب أو استنباط، أو فتوى للإمام، فتجد أن المسائل في كتب الفقه أكثر منها في كتب الحديث.
يعني ذلك أن من نظر في كتب الحديث جميعاً فإنه يخلص بنتيجة وهي أن المسألة إذا كان دليلها حديثاً عن النبي - عليه الصلاة والسلام - فهو موجود في كتب الحديث بتفصيل وببيان الخلاف فيه ودرايته وروايته وما يتصل بذلك، لكن إذا كان دليلها قاعدة عامة، دليلها آية، دليلها القياس، دليلها قول صاحب، دليلها فتوى الإمام، فلا تجدها في كتب الحديث.
ينبني على ذلك أن الناظر في كتب الفقه يكون الباب في ذهنه أرتب وأوسع، لكن كتب الفقه فيها قصور - في العموم - من جهة النظر في الحديث أو في المتن بدون تأثر صاحب المذهب بمذهبه في النظر، لأنه يكون الدليل من السنة مثلاً في البخاري لكن في كتاب المذهب الفقهي ولو كان مطولاً خلافياً، فيه الخلاف العالي والنازل، لكن يكون نظره في الحديث بناءً على مذهبه، هذه الحيثية هي نوع من القصور في كتب الفقه من جهة طالب العلم المتوسع، فيكملها بالنظر في كتب الحديث، لكن كتب الحديث - يعني الشروح المطولة -