يشهد العالم إرهاصات العولمة وما يصاحبها من تغيرات تحمل نذرا من التفكك والفوضى والاضطراب ، فهل تنتكس الجهود المبذولة لتوفير الخير والرخاءللمجتمع الإنساني؟
من الآراء السائدة لدى الكثيرين من المفكرين أن القاعدة العامة التي تحكم مسيرة الحضارة الإنسانية هي أن أي تغيرات جذرية تطرأ على الأوضاع العامة القائمة تلقى كثيرًا من المعارضة والمقاومة، التي قد تصل إلى حد الرفض، حتى وإن كانت هذه التغيرات تهدف إلى تحقيق مزيد من التقدم والارتقاء بالمجتمع الإنساني ككل، وأن هذه المقاومة والمعارضة والرفض كثيرًا ما تؤدي إلى ضياع فرص الارتقاء، وإلحاق كثير من الأضرار والخسائر وإمكانات الإصلاح والتقدم.
ومن الآراء السائدة أيضًا لدى كثير من المفكرين، والتي قد تعززها بعض الشواهد، أن النظريات الاقتصادية الكبرى قلما تستمر في الوجود والقدرة على التأثير لأكثر من عقود قليلة، قبل أن يتضاءل بريقها وينصرف عنها كثير من أشياعها إلى نظرية أو نظريات جديدة، لن تصمد طويلاً قبل أن تلقى الإغفال والإهمال نفسه، وإن كانت بعض هذه النظريات أثبت قدرة على البقاء والتأثير لحوالي نصف قرن نظرًا لتوافر الظروف السياسية الملائمة، مع القدرة على الإفادة من المستجدات التكنولوجية لتحقيق أهداف ومبادئ تلك النظريات. ويبدو أن هذا هو مصير العولمة التي لم يمر على قيامها في صورتها الحالية سوى ثلاثين عامًا تقريبًا، إذ بدأ الكثيرون يرون أنها دخلت مرحلة الاحتضار التي قد تستغرق بعض الوقت، لأن الأيديولوجيات الكبرى لا تموت بغتة.
وبطبيعة الحال فإن التمسك بالعولمة والاعتقاد بصدق مبادئها والتحمس لدعاواها سوف تظل حية في أذهان الكثيرين، على الرغم من ثبوت تهافت هذه الدعاوى وعدم فاعلية المبادئ التي تنادي بها. والمهم الآن هو أن علامات التدهور والنكوص والتراجع أصبحت واضحة ومتزايدة، وقد بدأت تفرض نفسها على الساحة منذ أواسط التسعينيات، أي بعد أقل من ربع قرن فقط من ظهور الدعوة إليها والتبشير بها. وقد يتغافل البعض عن متابعة علامات التدهور وتقدير خطورتها، على الرغم من أن العولمة وجدت لتبقى، وأنها أصبحت أمرًا واقعًا وقائمًا بالفعل، ولا محيص عنه، وأن معارضتها هي مجرد مسألة شكلية، ومحاولة فاشلة للارتداد إلى الوراء والتمسك الرومانتيكي بالقديم المألوف.
فساد ادعاءات العولمة
ولكن في مقابل ذلك يرى البعض الآخر أن ادعاء أن العولمة أمر لا يمكن تجنبه هو في ذاته علامة على الضعف، خاصة أن بعض القضايا الأساسية التي تنادي بها العولمة قد ثبت فسادها، كما هو الشأن بالنسبة للادعاء بأن الدولة - الأمة - تتراجع لكي يحل محلها الأسواق (الكوكبية)، وأن المستقبل سيكون للاقتصاد وليس للسياسة أو للقوة العسكرية، وأن القوة الحرة سوف تساعد على قيام التوازنات الدولية بشكل طبيعي مقبول. وفي ذلك يذهب «جون رالستون سول» إلى القول متهكمًا وساخرًا: إن أحد المظاهر المثيرة للضحك لبداية الفترة الجديدة هو إنشاء نادٍ للزعماء السياسيين في أوربا في دافوس عام 1971 لدراسة وفهم الحضارة من زاوية العمل والعلاقات الاقتصادية، مما جذب إليه كبار رجال الأعمال من كل أنحاء العالم، وبذلك بدأ يسود الرأي بأن الصالح العام ليس سوى نتيجة ثانوية للتجارة والتنافس والبحث عن المصالح الخالصة. وهذا معناه في آخر الأمر أن ما هو خليق بالتقدير كقيمة أخلاقية هو (العمل) الجاد، وتحقيق الثروات الطائلة بكل وسيلة كمظهر من مظاهر النمو الاقتصادي، وأن الذين يفشلون في ذلك إنما يرجع فشلهم إلى الكسل والافتقار إلى أخلاقيات العمل بالمعنى الدقيق للكلمة. وعلى ذلك، فإن تقديم المعونات الاقتصادية للدول النامية بقصد تحقيق مستوى أعلى من المعيشة هو بدوره عمل لا أخلاقي، لأنه يكافئ العجزة والكسالى على عجزهم وكسلهم.
وليس ثمة شك في أن للعولمة أعداءها من بين الذين أضيروا بسبب التغيرات السريعة المتلاحقة، ومن بعض الناشطين من ذوي الاتجاهات الإنسانية المثالية، كما أنها تقاسي من الأزمات التي تنشأ نتيجة سوء وطبيق الحكومات لمبادئ العولمة ذاتها، كما أن التقدم الاقتصادي والازدهار المالي يواجهان كثيرًا من المخاطر والتهديدات من النظم الجامدة والمتخلفة، ومن تقلبات السوق والسياسة، وذلك فضلاً عن انعدام الثقة في الحكومات في كثير من الدول في كل أنحاء العالم، إلى جانب ضآلة الاستثمارات في مجالات التنمية الاقتصادية وفي الدول الأكثر فقرًا بوجه خاص. ولذا، يتوقع الكثيرون من الباحثين أن تشهد السنوات القليلة المقبلة نهاية العولمة، التي تتعرض منذ بعض الوقت للهجوم الشديد والتشكيك في فاعلية المنظمات الدولية التي تحمل لواء الدعوة لها. وقد ظهر كثير من المشكلات والصعوبات حول ما ينبغي أن تفعله الدول والحكومات للحد من ثقل وطأة العولمة على الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية الخاصة، والمميزة لكل شعب أو مجتمع على حدة والتي تتعرض لخطر التلاشي والاختفاء نتيجة لسيطرة الدول الكبرى الأكثر ثراء وتقدمًا وقدرتها الفائقة على الهيمنة في المجالات كافة.
ولقد كان المأمول أن تتمكن العولمة من إيجاد حلول نهائية وفعالة لمعظم - إن لم يكن لكل - المشكلات التي تواجه المجتمع الإنساني المعاصر، وكان لها في بداية الأمر بريق يبهر الأنظار، ويخفي مساوئها إلى أن ظهر أن المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العالم أكثر تعقيدًا بكثير من أن تجد لها حلاً، بالرجوع إلى أيديولوجيات واحدة يزعم أنصارها إمكان تطبيقها بنجاح على مختلف المجتمعات والثقافات، بصرف النظر عما قد يكون بينها من تباين، كما ظهر عجز الدول في كثير من أنحاء العالم عن حل مشكلاتها المتفاقمة، ورد المسئولون فشلهم وعجزهم إلى التأثيرات الخارجية الناجمة عن العولمة.
مبرر للفشل
بمعنى أن العولمة أصبحت في كثير من الأحيان هي المشجب الذي يعلق عليه رجال السياسة والاقتصاد فشلهم وعجزهم عن التغلب على الصعوبات التي تواجه شعوبهم، وكان هذا كله مدعاة لزيادة الشك والارتياب في المبادئ التي تقوم عليها الدعوة، فضلاً عن الشكوك التي كانت تحوم منذ البداية حول مراميها وأهدافها الحقيقية، وهي فرض مزيد من هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة الأقل تقدمًا والأكثر فقرًا، وعلى ذلك، فإن ادعاءات أنصار العولمة بأنها تتيح الفرصة لحل مشكلات العالم المتراكمة بطريقة جديدة، ومن وجهة نظر عامة وشاملة تقوم على إرساء قواعد التعاون بدلاً من الصراع على المستوى العالمي هي ادعاءات لا يؤيدها واقع الأمور، بل إن هناك على العكس من ذلك تمامًا نوعًا من التمرد على التكنولوجيا والأنظمة الاقتصادية التي تضيف قوة إلى الأقوياء - الذين يؤلفون قلة من سكان العالم - وضعفًا إلى الكثرة الضعيفة أو المستضعفة - الذين يؤلفون الأغلبية الساحقة على كل المستويات - ومن هنا كان الرأي أنه حتى يمكن تجنب قيام حركات تمرد اجتماعي شاملة فإنه يتعين مراجعة المواقف، والعمل على بناء وتشييد روابط قوية مع هذه الجموع الشعبية مما قد يساعد على تجاوز الأزمات الناجمة عن العولمة، والناشئة عن إغفال الفوارق بين الشعوب والثقافات.
والواقع أنه في الوقت الذي ساد فيه شعور عام بالتفاول بأن العالم يدخل في مرحلة جديدة من تاريخه، عن طريق اعتناق واتباع مبادئ العولمة التي تهدف في آخر الأمر - في رأي بعض أنصارها - إلى توحيد العالم بشكل أو بآخر، مما قد يقضي على الصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية والعرقية، التي مزقت العالم خلال العصور الطويلة، قامت اعتراضات كثيرة تتهم العولمة بأن من شأنها ظهور طبقة جديدة من (هواة) السيطرة على العالم، قد يصعب تحديدهم بدقة، ولكنهم يشايعون بالضرورة الاتجاهات الرأسمالية، مع الميل إلى اختلاق الأزمات الاقتصادية التي تحقق لهم أغراضهم الخاصة.
وعلى ذلك، فإن مزاعم أنصار العولمة بقدرتها على توحيد العالم هي مجرد أوهام، تخدع بها الدول القوية الغنية بقية شعوب كوكب الأرض، بل إن هناك من المفكرين من يذهب إلى حد اعتبار العولمة صورة حديثة متطورة من الاستعمار القديم، الذي كان المدافعون عنه يزعمون أنه كان يهدف إلى توحيد العالم والتقريب بين أنظمته وثقافاته باسم الدين أو الحضارة الإنسانية الراقية والارتفاع بمستوى الشعوب المتخلفة والوصول بها إلى آفاق جديدة من الرقي الاقتصادي والفكري وهو ما ظهر زيفه. فليس ثمة اختلاف جوهري في حقيقة الأمر بين الحركات الاستعمارية وتيارات ودعاوى العولمة، لأن الاثنتين تغفلان تمامًا مبدأ استقلال الشعوب والأمم وتنوع الثقافات والنظم الاجتماعية.
حلم أجوف
وحتى الادعاء بأن من شأن العولمة الارتفاع بمستويات الحياة لدى الشعوب الفقيرة ليس في حقيقته سوى (حلم أجوف)، إذ المشاهَد أن الهوة بين الأغنياء والفقراء تزداد اتساعًا طيلة الوقت، بل إن الفوارق داخل كل دولة تتسع هي أيضًا وتزداد وضوحًا وخطورة، وأن العالم الغربي المتقدم لم يسلم هو نفسه من بعض الآثار السلبية المتمثلة في ارتفاع معدلات البطالة نتيجة لإعادة تشكيل النظم والعمليات الاقتصادية، كلما ازداد القلق والتوتر بين قطاعات واسعة من شعوب ذلك العالم، الذي يتشيع للعولمة ويحاول فرضها بكل الوسائل والأساليب.
والسؤال الذي يثيره أعداء العولمة والذي يحمل كثيرًا من التحدي هو: هل تتزايد؟ أم تتناقص حدة ومساحة الفوارق والتفاوت في المستويات الاقتصادية بين شعوب العالم المتقدم والعالم النامي؟ وهل أفلحت العولمة في سد، ولو جانب معقول، من الفجوة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية القائمة، والفاصلة بين فئتي الدول التي ينقسم إليهما العالم، والتي تزعم العولمة قدرتها على إزالتها، لأنها وصمة في جبين الحضارة الغربية الحديثة بكل إنجازاتها العلمية؟ فهناك شك كبير حول ما أنجزته العولمة في هذا الصدد خلال العقدين الماضيين، بل إن ثمة شعورًا عامًا سائدًا في مختلف الأوساط المهتمة بالوضع الإنساني، بأن الأمور تزداد سوءًا، وأن الفوارق بين الشعوب تتسع طيلة الوقت. والواقع أن هناك كثيرًا من الشك أيضًا حول دقة وصدق البيانات الصادرة عن البنك الدولي حول هذا الموضوع، خاصة أن البنك يعتبر في نظر الكثيرين مؤسسة سياسية في المقام الأول.
وقد أخذ الاعتقاد يتزايد بأنه ليس من الضروري أن يكون تحرير التجارة هو الأداة الفعّالة لتحقيق النمو والتقدم، وتكفي الإشارة هنا إلى أن ما أحرزته الصين من طفرة تنموية هائلة كان أسبق على اعترافها بتحرير التجارة. وفي مقال بجريدة الجارديان بتاريخ 31 أبريل 2006 عن «التنمية رغم رأي واشنطن»، يذهب جوزيف ستيجليتز إلى أن الصين على وشك إعداد المسرح لتكملة واستمرار ما قد يكون أهم وأخطر تحوّل في التاريخ عن طريق تحسين أحوال معيشة حوالي ربع سكان العالم، إذ لم يشهد العالم من قبل قط مثل هذا النمو المستمر والمطرد، ومثل هذا القدر من تقليص غائلة الفقر، وذلك عن طريق النجاح في التوفيق بين الإجراءات البرجماتية وسعة الخيال والرؤية الصائبة، بينما جانب كبير من دول العالم النامي الأخرى، التي تتبع وجهة نظر الولايات المتحدة لاتزال تبحث لنفسها عن طريق «وهمي» لزيادة دخلها القومي العام.
وقد حققت الصين في المناطق الأكثر فقرًا وتخلفًا من النمو والتقدم ما كان يمكن اعتباره معجزة بكل المعايير لولا أن أجزاء أخرى من الدولة حققت درجات من التقدم والازدهار أكثر من هذا بكثير وبسرعة مذهلة، وإذا كان لايزال هناك حتى الآن تفاوت وتباين في مستويات المعيشة، فإنه التباين الطبيعي والمألوف في كل أنحاء العالم بين المدن والمناطق الريفية، وبين المجتمعات الساحلية والمناطق الداخلية، ولذا فإن تقرير البنك الدولي لهذا العام عن التنمية يأخذ في الاعتبار مسألة التفاوت، وليس فقط الفقر. والمهم هو أن الصين في طريقها إلى تحقيق مجتمع أكثر رخاء وتقدمًا وتجانسًا، خاصة بعد أن أدركت أن الفارق بين الدول الأكثر تقدمًا والدول الأكثر تخلفًا، ليس فقط في الموارد والإمكانات المادية، ولكن أيضًا في المعرفة، وهو الأمر الذي تعمل على التغلب عليه. ثم هناك مثال ماليزيا التي رفضت الانصياع لمبادئ العولمة، وتعاليم البنك الدولي، ولم يمنعها ذلك من تحقيق مستويات مذهلة من النمو الاقتصادي، أصبحت بفضله نموذجًا خليقًا بالمحاكاة.
وصندوق النقد الدولي نفسه يعترف صراحة بأنه في العقود القليلة الماضية، ازداد تدهور مستوى الحياة لدى حوالي خمس سكان العالم، مما يعتبر علامة على فشل السياسات الاقتصادية، وعجز الدعاوي التي تنادي بها العولمة عن قدرتها على الارتقاء بنوعية الحياة التي يبشر بها أنصارها، ذلك أن الفقر واتساع الهوّة، وازدياد الفوارق الاقتصادية، قد تؤدي في آخر الأمر إلى أن تعيش الفئات الأكثر ثراء في الدولة الواحدة بمعزل عن الفئات الأخرى داخل أسوار معنوية واجتماعية مغلقة عليهم، بينما تعيش جموع الشعب الأقل حظًا من الحياة ومن الغنى خارج تلك الأسوار، حيث يحيون حياة تفتقر إلى الاستقرار.
والخطورة هنا هي أن الفقر كثيرًا ما يؤدي إلى ظهور الحركات المتطرفة، التي قد يتبنى بعضها سياسة الإرهاب. ولا يبدو أن العولمة سوف تفلح في القضاء على مثل هذه التيارات المتطرفة، بل إنها ساعدت، على العكس من ذلك، على ازدياد حركات التمرد، التي تعبر عن نفسها في التظاهرات الصاخبة ضد كثير من المؤتمرات والاجتماعات الدولية، التي يعتقد الكثيرون أنها تتبنى سياسة لا تتفق مع متطلبات الجماهير. ويصف رئيس وزراء بريطانيا توني بلير تلك التظاهرات بأنها «سيرك متنقل» من الفوضويين، كما أن هناك بعض المحاولات من الاتحاد الأوربي للربط بينهم وبين الإرهابيين.
ومن حق المشايعين للعولمة أن يتملكهم الفزع من عنف وقوة هذه التظاهرات، وحركات الاحتجاج والمسيرات، التي قد تضم عشرات الألوف من البشر - كما حدث في برشلونة في مارس 2002 - حين ضمت المسيرات أكثر من ربع مليون نسمة أثناء اجتماع قمة الاتحاد الأوربي أو كما حدث في جنوا في السنة السابقة على ذلك، وكذلك قيام ما يعرف باسم «حركة العدالة الكوكبية»، بالإضافة إلى الضغوط الهائلة التي تفرضها آلاف الجماعات الطوعية والمنظمات غير الحكومية، وحركة العدالة - كما يستدل من اسمها - حركة تأخذ في الاعتبار مشاكل كل الشعوب على كوكب الأرض، ويستوي في ذلك مشكلات الشمال ومشكلات الجنوب، وقد بدأت الحركة كمنظمة سياسية تضم أشخاصًا من خلفيات سياسية متباينة أشد التباين، ولذا فإن التحدي الذي تواجهه هو مدى قدرتها على التماسك والصمود أمام دعاوى العولمة والمناصرين لها.
مقاومة العولمة
ثم هناك الحركة الدولية، التي تقوم على الدعوة الصريحة لمقاومة العولمة، والتي تحمل اسم Globalize Resistance والتي ترفض منذ البداية أن تضفي على الرأسمالية ما تعتبره طابعًا إنسانيًا زائفًا، ولذا ترى أن مبادئ العولمة لا يمكن أن تؤدي إلى تحقيق أية نتائج طيبة، وأنها على العكس من ذلك، لن ينتج عن تطبيقها سوى الخلل والاضطراب والارتباك داخل أي مجتمع يحاول اتباع تلك المبادئ في رسم سياسته الاقتصادية. فأحد آثار العولمة التي تثير كثيرًا من القلق، هو تزايد تكويم الثروات في أيدي فئات وشرائح من السكان، غير تلك التي عهدها المجتمع الإنساني خلال العقود الطويلة الماضية، والتي توصف في بعض الكتابات بالصفوة الاقتصادية التقليدية، وذلك لأن التكنولوجيات الحديثة لها القدرة على جعل بعض الناس أغنياء بشكل غير مألوف، في وقت قصير نسبيًا، ولأسباب غير واضحة في معظم الأحيان، وهو ما يقلق الكثيرين، لأنه يمثل خللاً في البناء الاجتماعي، خاصة أن القيم العليا التي لاتزال سائدة بين الطبقات الغنية الأصيلة، تعتبر الآن مظهر تخلّف لا يتفق مع أنساق القيم الجديدة، مما يؤدي إلى تراجع مكانة الفئات، التي لاتزال تؤمن بتلك القيم وتراعيها في علاقاتها الاجتماعية وتعاملاتها الاقتصادية، ولذا بدت هذه الطبقات تفقد مكانتها الاجتماعية تدريجيًا أمام سطوة المال، وأمام الطبقات الجديدة الزاحفة، التي تعتقد أنها لا تدين بشيء للآخرين، ولذا ينفصلون عن المجتمع الذي يعيشون فيه.