المعوّقات الاقتصادية
تأخر تشكل الرأسمالية العربية التي تعمد إلي تجاوز أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، بل أنها بقيت من النوع التابع الذي تقع شروط إعادة إنتاجه خارج إطاره. ومنذ أواسط سبعينات القرن الماضي أفرزت فترة الازدهار النفطي اختلالا واضحا في التركيب الهيكلي للاقتصاديات العربية، وفي هيكل الطلب الاجتماعي. وكانت حصيلة هذه التغيّرات الهيكلية تحول بعض الاقتصاديات العربية من اقتصاديات إنتاجية إلي اقتصاديات ريعية ، واستمرار بقاء القطاع النفطي قطاعا علويا، يكتفي بتحريك النشاط الاقتصادي من خلال الإنفاق القومي بدلا من التشابك العضوي معه.
وأدي ذلك إلي تراكم العديد من المؤشرات الخطيرة في تطور الاقتصاديات العربية من أهمها:
1 ـ التدهور النسبي في القطاع الزراعي والارتفاع الكبير في نصيب الصناعات الاستخراجية وقطاع الخدمات.
2 ـ تخلخل التوازن بين القطاعات والفئات الاجتماعية، وتوسع الفجوة بين الأرياف والمدن.
3 ـ انخفاض موقع الصناعة التحويلية في هيكل الإنتاج القومي.
4 ـ تركيز الاهتمام بالتنمية المادية وإغفال أهمية التنمية البشرية.
5 ـ مهد النفط لمفهوم الدولة الريعية، حيث تمكنت الحكومات من أن ترشي قطاعات من المجتمع، بهدف توسيع قاعدة حكمها وسلطتها.
وما أن بلغنا منتصف الثمانينات، إن لم يكن قبل ذلك، حتي تبين أنّ معظم الآمال التي بنيت في أوائل السبعينات، علي ثروة النفط وانتقال العمالة والمشروعات العربية المشتركة، كانت قصورا مبنية علي الرمال. ولم تكن خيبة الأمل هذه ناتجة عن مجرد أنّ الزيادة في إيرادات النفط قد أصابها الانتكاس في منتصف الثمانينات نتيجة الانخفاض الكبير في أسعاره، بل ما تبين، مع مرور الوقت، من أنّ زيادة الإيرادات شيء، وزيادة القدرة علي استخدام هذه الإيرادات والثروات في تحقيق التنمية العربية علي أساس التكامل والشمول ووحدة الخطط والبرامج شيء مختلف تماما.
وهكذا، أسفرت أغلب التجارب التنموية العربية عن نتائج تناقض أهداف التنمية الحقيقية : مزيد من التبعية للخارج، ومزيد من التفاوت في الدخول والثروة بين الناس، وارتفاع في أسعار المواد الأساسية والخدمات ومعدلات التضخم ومعدلات البطالة، وتراجع في الأداء الاقتصادي العام، ومشكلات في الصناعة الحديثة وأسلوب نقل التكنولوجيا، وضعف الاستثمار والادخار، وعدم قدرة الإنتاج الزراعي علي سد الفجوة الغذائية، ومحدودية التفاعل والتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، واستمرار نزوح الأموال العربية إلي الخارج.
لقد صحت الأقطار العربية، في أواخر الثمانينات، لتجد نفسها أمام عالم جديد، لم تهيئ نفسها لمتطلباته وتحدياته، سواء بشكل جماعي أو انفرادي. فقد أصبح النظام الاقتصادي العالمي هو الأداة التي تستخدمها الدول الكبري للهيمنة في المجالات السياسية والاقتصادية، بعد أن استطاعت الرأسمالية تطوير وسائل عملها.
المعوّقات الاجتماعية
شهد العالم العربي المعاصر تَشكَّلَ مجتمعين متباينين : أولهما، هامشي أو مهمش يتكون من غالبية الأرياف والبوادي وبعض المدن أو أقسام من المدن. وثانيهما، جديد/سياسي، مجتمع مدن، مهن وحرف جديدة أو متغيرة، طلاب وتعليم حديث، سياسة وأحزاب. فمعظم المواقع والعلاقات الاجتماعية في حالة تَشَكُّلٍ وتداخل وتبادل بين القديم والجديد، بين العلاقات ما قبل الرأسمالية، حيث أشكال الترابط والتضامن علي أسس قبلية وطائفية وعشائرية وخدمية، وبين الأوضاع والعلاقات الجديدة التي تتشكل بفعل علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة وأنماط التقسيم الدولي للعمل.
إنّ ترييف المدينة وبدونتها، علي حد تعبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، هو الإشكالية المطروحة علي الفكر العربي السياسي، فقد جلبت التحولات الاجتماعية ما بعد عهود الاستقلال الأولي إلي الحواضر العربية إما أبناء الريف العربي أو أبناء البادية، وهؤلاء لم يقفزوا علي السلطة بالطريقة التقليدية، التي نوه إليها ابن خلدون بالعصبية القبلية، ولكنهم حازوها من خلال المؤسسات الحديثة المنظمة كالجيش والأحزاب الحديثة التي جمعتهم لأسباب اقتصادية وأيديولوجية وعصبوية أيضا، فأصبح العمل السياسي العربي ـ إلا فيما ندر ـ في أيدي هذه الفئات بعد أن تخلصت، تحت شعارات شتي، من الأرومة المدنية العربية في الحاضرة، التي قادت العمل السياسي والصناعي والتجاري برهة من الزمن بعيد الاستقلال ... فأصبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية قيما وممارسات ريفية، مما اصطلح علي تسميته بـ ترييف المدينة .
أما القوي التي لعبت أدوارا في الدولة العربية فهي عديدة، ولكنها متفاوتة التأثير ويمكن تصنيفها كما يلي:
(1) العائلات الحاكمة، سواء كانت عائلات تقليدية، حكمت نتيجة توارث السلطة، أو عائلات حاكمة جديدة، جاءت نتيجة الانتخابات أو الانقلابات، فإنّ هذه العائلات لا تمسك بزمام السلطة فقط، بل بزمام الحياة الاقتصادية أيضا. وهي ذات مصلحة بالمحافظة علي السلطة في القطر الذي تحكمه، لأنّ وجودها في السلطة مصدر قوتها وسلطتها.
(2) ـ البورجوازية ـ العقارية ـ التجارية ـ المالية، وهي خليط من أبناء وأحفاد العائلات الإقطاعية وكبار التجار والملاكين العقاريين في العهد العثماني، ومن العائلات العقارية ـ التجارية التي نمت وترعرعت في عهود الاستعمار الغربي، ومن البورجوازيين المتوسطين الذين أثْروا في عهود الاستقلال .
((3 ـ الشرائح العليا من البورجوازية الصغيرة المستفيدة من العائلات الحاكمة والبورجوازية العقارية ـ التجارية ـ المالية، والتي تحتل مواقع مهمة في الدولة والجيش والشركات.
ثم أنّ المجتمع العربي يتسم بالثبات، من خلال قيمه ومعاييره الموروثة. فمن الاتجاهات الموجودة في نظام القيم العربية التي تعوّق إمكانية التنشئة المواطنية الصحيحة يمكن أن نذكـر: النزوع نحو التشديد علي العضوية في العائلة وليس علي الاستقلال الفردي، والنزوع نحو الاتكالية والطاعة وليس الاعتماد علي الذات، والتمسك بالعقاب كوسيلة للتربية أكثر من الإقناع، والنزوع نحو الأنانية، وسيطرة الرجل علي المرأة حتي إخضاعها.
ولعلنا لا نحتاج إلي عناء كبير لنلمس هذا النزوع نحو الخضوع والطاعة والاتكالية من جهة، وحب السيطرة والأنانية من جهة أخري. ويري بعض الباحثين أنّ هذه القيم لا تتحكم فقط بالعلاقات الأسرية بل أيضا بالعلاقات السياسية.
وهكذا، فمن أخطر ما أصاب التركيبة الاجتماعية العربية، في عصور التدهور، اختلال التوازن داخلها، بين الرجال والنساء، وتشابه علي مجتمعاتنا الغاية والوسيلة. فمالت كل الميل إلي التمسك بالوسيلة، وغاب عنها أنّ الغاية هي المقصودة، وعليها المدار. فنسيت مجتمعاتنا أنّ الوسائل إنما هي مطية لبلوغ الغاية، تتبدل بتبدل الأوضاع، وتتغير بتغيّر الأحوال، وتتطور بتقلب الأزمان. هذا الخلط بين الوسيلة والغاية هو الذي جمد الدفق الحضاري في مجتمعاتنا، وأفقد العقل سلطانه في الكثير من الأمور الجوهرية. فتعطلت قاطرات الفعل الحضاري، وانسدت ينابيع الفكر الثقافي، حتي شمل الشلل أغلب مراتب التصرف، في مستوي الحكم، وفي صعيد الاقتصاد، وسائر شؤون المجتمع.
المعوّقات الثقافية
يبدو أن تفسير التأخر الحضاري العربي عن طريق المشروطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يكفي. فالعقليات وإن كانت مشروطة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ لها استقلاليتها الذاتية إلي حد ما. فأحيانا يتغير الواقع المادي دون أن تتغير العقليات، إذ تدخل التكنولوجيا والحداثة المادية والتجهيزات والآلات إلي مجتمع ما وتظل العقليات فيه متأخرة أو تقليدية.
إنّ الخطاب الثقافي، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات، هو خطاب الأزمة : فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد. ولعل أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي المعاصر تكمن في محاولة التعرف علي عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا: الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية.
ولاشك أنّ أزمة الثقافة العربية المعاصرة هي جزء لا يتجزأ من أزمة الدولة العربية من جهة. وهي، من جهة ثانية، أزمة بنية ثقافية عربية تندرج في إطار بنية اقتصادية ـ اجتماعية متوارثة منذ عقود طويلة من الركود والتأخر والتبعية. مما يسمح لنا بأن نطرح السؤال المقلق الذي أثاره الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين: لماذا تراجع العرب وتقدم غيرهم؟ وتفسير عبدالله العروي لأزمة الثقافة العربية المعاصرة بأنها اختلال العلاقة بين الوعي والفعل، بين الوعي المنقوص والفعل العاجز، بين التوفيقية الملتبسة وافتقاد القدرة علي الحسم؟!
وقد أدي كل ذلك إلي تصاعد نزعات التعصب والتطرف، وتزايد عمليات الإرهاب التي تتمسح بالدين الحنيف، وارتفاع درجة العنف الذي صاحب الدعوة إلي الدولة الدينية، أو صاحب الاتجاهات التقليدية الجامدة التي تصف التحديث ببدعة الضلالة المفضية إلي النار. هكذا، رأينا الاعتداء علي المواطنين الأبرياء، ورموز السلطة المدنية، وتهديد المثقفين المستنيرين بكل وسيلة ممكنة. وأضيف إلي ذلك تحوّل هذا الإرهاب من إرهاب محلي إلي إرهاب دولي، وذلك في سياق متصاعد وصل إلي ذروته في جريمة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن، وهي الجريمة التي فرضت أوضاعا جديدة تمامـا، جعلت العالم كله يري أبشع وجه للإرهاب.
ومن المؤكد أنّ أصحاب نزعة التعصب والعنف لم يدركوا التراث العربي ـ الإسلامي في كماله وصراعاته واختلافاته وتعدده في تنوعه، ولم يدركوا لماذا كان هناك المعتزلة والأشاعرة، ولكنهم أخذوه كما هو في مظهره السطحي وتضاريسه الخارجية. بسبب غلبة الوعي الأصولي النقلي علي تفكيرهم، وذلك علي نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا عن حياتهم وليس عنصرا تكوينيا من عناصرها الحيوية. ودليل ذلك يسير جدا، نلمسه في ندرة كتاباتهم ورؤاهم التي تشغل نفسها بسؤال المستقبل، وذلك في مقابل الوفرة الوافرة من الكتابات والخطابات والممارسات المهمومة بسؤال الماضي وحضوره الذي يتحول إلي ما يشبه حضور العلة الأولي أو المركز المطلق للحضور. والنتيجة هي قياس كل شيء علي الماضي، والعودة بكل جديد إلي أصل يبرره من القديم، والنظر إلي التغيير في ريبة، وإلي التجدد بعين الاتهام.
في حين أنّ الثقافة التراثية ثقافة متنوعة لا ينبغي أن نأخذها في مظهرها السطحي، وعلينا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين ألا نتبني هذا التراث بطريقة مطلقة، وإنما نتعقله في سياقه التاريخي، وكيف ظهر وانتهي في زمنه، ثم بعد ذلك نضيف إليه بحسب عصرنا وظروفه، وبرؤية عقلانية نقدية، وبذلك يصبح التراث قيمة متحركة، ويخرج عن إطار الجمود أو أن يكون مجرد ماضٍ.
كما أنّ العلاقة بين القومية العربية والإسلام علاقة متشابكة ومعقدة إلي أقصي حد، إذ تختلف هذه العلاقة عن علاقة أي دين بأية قومية، وقد زادت الهجمة الاستعمارية الغربية من حجم التداخل بين العروبة والإسلام، إذ لم تقتصر علي الجانب المادي فقط، بل بلغت الجانب الروحي للشعوب العربية أيضا، من خلال هجومها علي مقدساتها وقيمها الدينية. لذلك فإنّ هذه الشعوب استعانت بكل قواها، بما في ذلك قوة الدين، لأنها كانت تحس أنّ الغرب يستهدف وجودها وحضارتها ودينها.
وإزاء هذه الخصوصية والتعقيد بين العروبة والإسلام يمكن أن تتحدد علاقة أكثر صحة وأكثر دقة بينهما، بالاستناد إلي ما يلي:
(أ) ـ العلمانية، بمعني فصل الدين عن الدولة، وليس العداء بينهما، أساس جوهري في قيام الدولة، وفي علاقة المواطنين بها، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو القومية .
(ب) ـ المواطنون متساوون، ولا يجوز التمييز بين مواطن وآخر بسبب الانتماء الديني أو الطائفي أو القومي، وتولي الوظائف العامة لا يحدده سوي الولاء للوطن والكفاءة.
(ج) ـ الإسلام جزء أساسي في تكوين تراث الأمة العربية، وقد كان لهذا التراث تأثير هام في إضفاء ملامح وخصائص معينة علي الشعوب العربية تميزها عن غيرها من الشعوب.
(د) ـ الحركات الدينية المتطرفة، حركات تعصب وانقسام في المجتمع، ولذلك لا يجوز أن تقوم علي هذا الأساس في إطار العمل السياسي .
وفي زمن العولمة، فإنّ طبيعة المخاطر المهددة للثقافة العربية لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما تتعلق بمدي قدرتها علي تجاوز أزمتها، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الشاملة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتوفير حرية البحث العلمي، وإنشاء منظومة تربوية تقوم علي تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقي، وتوفير وسائل تمكينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليمية، وإطلاق العنان للطاقات الشابة في كل المجالات لكي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها .
إنّ حضور سؤال المستقبل في أية ثقافة هو دليل حيويتها، علي حد تعبير الأستاذ جابر عصفور، فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها علي التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتي. إنّ الوعي المستقبلي يقيس علي الحاضر في حركته إلي المستقبل، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه علي الارتقاء بالإنسان من مستوي الضرورة إلي مستوي الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من التأخر إلي التقـدم .
وهكذا، يبدو واضحا أننا أحوج ما نكون إلي إعادة صياغة الخصوصية الثقافية العربية، بمعني أننا في أمس الحاجة إلي عملية إحياء ثقافي. فالثقافة العربية الراهنة تمر في مرحلة انحطاط وردة واضحين، فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلي العصور المظلمة، ويحفّزه علي التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل . وإزاء ذلك يبدو أنّ الخطوة الأولي في محاولة التعاطي مع أسئلة المستقبل تكمن في فهم لغة الخطاب العالمي المعاصر، التي يتم التعامل بها بين أطراف هذا العالم الجديد، وخاصة القوي الغربية المؤثرة، وبالتحديد فهم توجهات هذا العالم نحونا. إذ أنّ البحث في الاعتماد المتبادل بين العالم العربي والخارج هو بحث في المستقبل، وأية دراسة للمستقبل لا بد أن تنطلق من صورة العالم، ونماذج تطور النظام العالمي في أبعاده السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية .
ومن جهة المنظور، لا يخفي أنّ الدراسات المستقبلية ليست جديدة، ولكنها تشهد اليوم ازدهارا واضحا يستقطب اهتمام المفكرين والمنظرين الاستراتيجيين. والرؤي المستقبلية لا يمكن إلا أن تكون تعددية، بمعني أنها تتغذي من جميع فروع المعرفة بقدر ما تنفتح علي جميع وجوه الحياة، كما تتجلي في العلوم الاجتماعية، أو في ميدان التاريخ والحضارة، أو في مجال الفلسفة والأخلاق، أو في ميادين الفن والأدب، أو في علوم الاقتصاد والمال، أو في الدراسات السياسية والاستراتيجية، أو في العلوم الطبيعية والبيئية، أو علوم الوسائط والاتصـال .
وهكذا فالتفكير من منظور مستقبلي يتوقف علي العمل بعقل تواصلي، من هنا تتبلور اليوم شبكة جديدة من المفاهيم تتلاءم مع التحول الذي تشهده البشرية. بحيث تتركز الجهود الفكرية والعملية علي تشكيل المجتمع الكوني التداولي، لمجابهة الداء الأعظم الذي يفتك بالبشرية، كما يتجسد في أنشطة العنف والأعمال البربرية التي تقوم بها قوات الجيش الإسرائيلي ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني. وهذا أحوج ما يحتاج إليه العرب: المساهمة في تنمية المجال التداولي وتوسيعه وإتقان لغته، خاصة ما يتعلق منه بـ المجتمع المدني العالمي ومنظماته غير الحكومية، لأنه الفاعل الجديد في العلاقات الدولية.
وانطلاقا من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمة أهمية كبري لصياغة استراتيجية عربية للحوار والشراكة مع الثقافات الأخري، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج :
(1) ـ الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعني المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبري .
(2) ـ النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالاتنا الوطنية علي الأقل .
وهنا تبرز مهمة المثقفين بالتوجه إلي الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل علي النقل، والفصل بين الخطابين الديني والسياسي، والتخلي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلي التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقا من نسبية المعتقدات والقناعات حسب قول المفكر الجزائري مالك بن نبي رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب .
ومما لا شك فيه أنّ عصر الحداثة لم ينغلق في نمط نهائي، بل هو في تطور متواصل، بهدف الإجابة علي التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية، عبر عقلانيته النقدية. فهو العصر الذي حققت البشرية فيه أثمن مكاسبها وأعظم إنجازاتها في المجالات السياسية والاجتماعية والمعرفية .
وللخروج من الحالة الماضوية الغالبة للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لا بد من التأكيد علي مجموعة جوانب مترابطة للتغيير الثقافي، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلي مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية:
(1) ـ ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية ـ الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حل محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلي دورهم في الماضي، فعكفوا علي تمجيده، دون الإضافة إليه.
(2) ـ ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ أنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم من يسعون لتحقيق أعلي معدلات وأرقي مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة.
(3) ـ الانفتاح والمبادرة الإيجابية، حيث أنّ الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسميه البعض بـ الغزو الثقافي هو استراتيجية بائسة وفاشلة تماما، فلم تعد الاستراتيجيات الدفاعية والفصامية قادرة علي إنقاذ الذات الحضارية من الهزيمة أو التبعثر، وإنما صار الأمل الحقيقي في الصمود رهنا بالتعلم واستيعاب وإتقان ما لدي الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج، ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري، وإصلاح شؤوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت بدءا من أنظمة الحكم ومرورا بنظام الجامعات ومواقع الإنتاج والخدمات .
(4) ـ المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة العربية احتياجا أساسيا وعميقا لامتصاص واستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة. بما تعنيه من تمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام، وخاصة فيما يتعلق بالدور، ولكن أيضا فيما يتعلق بالملكية والسلطة. كما تعني شيئا من الاتصال والتراكم والديمومة في أداء الوظائف.
(5) ـ التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلق الشديد بالماضي، لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية، فالمستقبل ليس سوي مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي ، وكأن الزمن لا يفعل سوي إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور .
ولعل التحدي الأكبر الذي يستوجب علي المجتمعات العربية مواجهته هو التحكم في نقاط ضعفها نفسها وفي مقدمتها نظمها السياسية، ومنظوماتها الاقتصادية والأمنية والإدارية والاجتماعية والثقافية، واكتشاف هذه النقاط وإدراك النقائص والسعي إلي معالجتها. هذه هي الخطوة الأولي نحو تكوين الفاعل التاريخي القادر علي تحديد أهداف وبلورة استراتيجيات، والدخول في تنافس أو تفاهم مع الأطراف الدولية الأخري. فلا أمل اليوم لطرف في التأثير علي مصيره الخاص إلا إذا نجح في أن يكون شريكا مع الآخرين في التعاطي الإيجابي مع التحديات العالمية، فالمشاكل التي يعاني منها هي نفسها التي تعاني منها بقية المجتمعات، ولا مجال لبلورة حلول ناجعة لها إلا من خلال منظورات إقليمية وعالمية.