يشتمل القرآن الكريم على كثير من القصص الذي تكرر في غير موضع ، فالقصة الواحدة قد يتعدد ذكرها في القرآن.
ومن القصص القرآنية مالا يأتي إلا مرة واحدة مثل قصة لقمان وأصحاب الكهف ومنها ما يأتي متكررًا حسب ما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة ولا يكون هذا المتكرر على وجه واحد بل يختلف في الطول والقصر واللين والشدة وذكر بعض جوانب القصة في موضع دون آخر( ) .
ومن حكمة هذا:
1- بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها . فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة ، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر ، وتصاغ في قالب غير القالب ، ولا يمل الإنسان من تكرارها ، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.
2- قوة الإعجاز _ فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي .
3- الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس ، فإن التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام . كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون ، لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل _ مع أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها .
4- اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة _ فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام ، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف مقتضيات الأحوال ( )
5- بيان أهمية تلك القصة لأن تكرارها يدل على العناية بها .
6- مراعاة الزمن وحال المخاطبين بها ولهذا تجد الإيجاز والشدة غالبًا فيما أتى من القصص في السور المكية والعكس فيما أتى في السور المدنية .
7- ظهور صدق القرآن وأنه من عند الله حيث تأتي هذه القصص متنوعة بدون تناقض ( ).
* * *
قصص القرآن بين الإيمان والإلحاد:
وقد تعرض كتاب الله عز وجل لعدد من الشبهات التي يذيعها الملاحدة والمستشرقين والمغرضين، وأذيالهم ممن ينتسبون إلى المسلمين ويتسمون بأسمائهم، ومن ذلك ما هذى به طه حسين حول قصة إبراهيم عليه السلام وبنائه الكعبة( ) إلا أن علماء الإسلام تصدوا له وردوا عليه وبينوا المحجة بأوضح حجة.
ومن ذلك أن أحد الطلاب الجامعيين في مصر قدم رسالة لنيل درجة ( الدكتوراه) كان موضوعها : ( الفن القصصي في القرآن ) ( ) أثارت جدلاً طويلاً سنة 1367 هجرية ، وكتب عنها أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في مناقشة الرسالة _ وهو الأستاذ أحمد أمين _ تقريرًا بعث به إلى عميد كلية الآداب ، ونشر في مجة ( الرسالة ) وقد تضمن التقرير نقدًا لاذعًا لما كتبه الطالب الجامعي ، وإن كان أستاذه المشرف قد دافع عنه . وصدر الأستاذ ( أحمد أمين ) بالعبارة الاتية :
( وقد وجدتها رسالة ليست عادية ، بل هي رسالة خطيرة ، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ . (والواقع أن محمدًا فنان بهذا المعنى ) ، ثم قال : ( وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها ، وإني أرى من الواجب أن .
اسوق بعض أمثلة ،توضح مرامي كاتب هذه الرسالة وكيفة بنائها ) ، ثم أورد الاستاذ (أحمد أمين) أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به من هذه العبارة المجملة( ).
كإدعاء صاحب الرسالة أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي . وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادث تصويرًا فنيًا ، وزعمه أن الفرآن يختلق بعض القصص وأن الأقدمين أخطأوا في عد القصص القرآني تاريخًا يعتمد عليه ..
والمسلم الحق هو الذي يؤمن بأن القرآن كلام الله ، وأنه منزه عن ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاه ، والأساليب الرائعة .
ولعل صاحب الرسالة درس فن القصة في الأدب ، وأدرك من عناصرها الأساسية الخيال الذي يعتمد على التصوير، وأنه كلما ارتقى خيالها ونأى عن الواقع كثر الشوق إليها ، ورغبت النفس فيها ،واستمتعت بقرائتها . ثم قاس القصص القرآني على القصة الأدبية .
وليس القرآن كذلك فإنه تنزيل من عليم حكيم ، ولا يرد في أخباره إلا مايكون موافقًا للواقع ، وإذا كان الفضلاء من الناس يتورعون من أن يقولوا زورًا ويعدونه من أقبل الرذائل المزرية بالإنسانية ، فكيف يسوغ العاقل أن يلصق الزور بكلام ذي العزة والجلال ؟ والله تعالى هو الحق : ذلك بأن الله هو الحق وأنما بدعون من دونه هو الباطل [الحج: 62].
وأرسل رسوله بالحق : إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا [فاطر: 24].
والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق [فاطر: 31].
يا أيها الناس قد جائكم الرسول بالحق من ربكم [النساء: 17].
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق [المائدة: 48].
والذي أنزل إليك من ربك الحق [الرعد: 1].
وما قصه الله تعالى في القرآن هو الحق : نحن نقص عليك نبأهم بالحق [الكهف: 13].
نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق [القصص: 3]